كان يوم الأربعاء الـ28 من آب/أغسطس عام 1968، في تمام الساعة التاسعة والنصف مساءً، حين أذاعت قناة "ABC" الأمريكية، مناظرة ساخنة بين الكاتب والمعلق السياسي الديمقراطي غور فيدال والكاتب السياسي المحافظ ويليام باكلي.
مثّل فيدال وباكلي التناقض الأمريكي، وبدا أن الاختلافات الفكرية العميقة بينهما تعطي بُعدًا جديدًا للاختلافات بين جناحي السياسة الأمريكية
لا يمكن وصف تلك الفترة من التاريخ الأمريكي بالعادية أبدًا، فحرب فيتنام كانت قد أخذت منعطفًا خطرًا نحو الأسوأ؛ القوات الأمريكية تتكبد الخسائر، والرئيس ليندون جونسون طالب البنتاغون بإرسال 48 ألف جندي أمريكي إلى ساحة الحرب، في خطوة ألهبت مشاعر جيل متمرد، خلق مقاومة على نطاق لم يكن أحد يتوقعه.
اقرأ/ي أيضًا: دليل مبسط لإضاعة الوقت في مناظرة السعادة.. انحطاط جيجك ضد دوغمائية بيترسون
وفي خضم ذلك، اغتيل مارتن لوثر كينج في ممفيس في نيسان/أبريل، وبوبي كينيدي في لوس أنجلوس في حزيران/يونيو. حينها علق فيدال الناقم بطبيعة الحال على سياسات بلاده، قائلًا: "لقد كنا دائمًا بلدًا عنيفًا، وأكدت هذه الوفيات ما عرفناه بالفعل".
لكن أكثر المشاهد إثارة، بعيدًا على كل الدموية في الشارع الأمريكي وقتها، هو مشهد الرجلين المثقفين على الشاشة الأمريكية، وهما يتعاركان في تسويق أفكارهما، بطريقة لم تشهد الولايات المتحدة مثيلًا لها.
حكاية أمريكا المتناقضة
اشترك فيدال وباكلي في الكثير من الصفات الشخصية، مثل الذكاء والفصاحة، والنرجسية التي قد تصل أحيانًا للتعجرف، والهدوء المقلق أحيانًا كثيرة.
وعلى الصعيدين السياسي والاجتماعي، كان باكلي على علاقة وثيقة بريغان ونيكسون، وكانت بات، زوجة باكلي، عميدة المجتمع الأرستقراطي لبارك أفينيو في منهاتن بنيويورك. أما فيدال فقد كان على صلة قرابة بجاكلين كينيدي، وكان صديقًا مقربًا لزوجها الأول جون كينيدي، بالإضافة إلى صداقته الحميمة بروزفلت وبالأميرة مارغريت، الأخت الصغرى لملكة بريطانيا إليزابيث.
فيدال كمعلق سياسي وكاتب مقال من الطراز الرفيع، تبنى تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، كموضوع أكاديمي بحثي، وخاصة كيف حولت السياسة الخارجية العسكرية البلاد إلى إمبراطورية "منحلة". كما اعتنق فيدال آراءً سياسية واجتماعية كانت بمثابة تمرد صريح على الأجنحة المحافظة في السياسة الأمريكية.
وكثيرًا ما تحولت نقاشاته حول الجنس والسياسة والدين إلى مشاحنات، خاصة حين تحدث بأريحية مع الصحفي جودي وايدر، عن افتراض يقول بأن كل النساء والرجال يمكن أن يكونوا ذو ميول جنسية مزدوجة.
كان لدى فيدال رؤية خاصة حول طبيعة الفساد في الحياة العامة والخاصة الأمريكية، كما استحضر في رواياته دفاعًا واضحًا عن أصحاب التوجه الجنسي المثلي، والمتحولين جنسيًا، كما وجه نقدًا حادًا للدين في رواياته الأدبية، وبالطبع للسياسة، حيث رأى أن الحكومة الأمريكية تُحصّل ضرائب باهظة ولا توفر في المقابل نظامًا صحيًا ولا تعليميًا مجانيًا.
في عام 1960 كان فيدال المرشح الديمقراطي للكونغرس عن الدائرة الانتخابية الـ29 في نيويورك، وهي منطقة جمهوريّة بامتياز، لذا لم يكن مستغربًا أن يخسرها أمام المرشح الجمهوري إرنست وارتون، وإن بفارق ضئيل، إذ حصل فيدال على 43% مقابل 57% لوارتون، وكانت نسبة كبيرة يحققها ديمقراطي في تلك المنطقة.
كان فيدال ضد أي تدخل عسكري في العالم. وبصفته مثقفًا صاحب موقف، انتقد ما اعتبره ضررًا سياسيًا للأمة وإلغاءً لحقوق المواطن من خلال إصدار قانون باتريوت الشهير بقانون مكافحة الإرهاب في عهد جورج بوش الابن، حتى أنه وصف بوش بـ"أغبى رجل في الولايات المتحدة"، ووصف سياساته بـ"الإمبريالية التوسعية بشكل صريح". وفي مقابلة مع صحيفة التايمز اللندنية، قال فيدال، إنه "ستكون هناك دكتاتورية قريبًا في الولايات المتحدة".
أما ويليام باكلي، ففي نشأته الكاثوليكية التي حكمت رؤيته وأيديولوجيته لاحقًا، تتضح قصة أمريكا المتناقضة، وفيها توضيح لطبيعة المواجهة مع من هم أمثال فيدال.
كان باكلي النقيض اليميني المحافظ لفيدال، حيث أسس مجلة "ناشونال ريفيو"، والتي مثلت الحركة المحافظة في أواخر القرن العشرين بالولايات المتحدة. وكانت مساهمة باكلي الأساسية في السياسة الأمريكية، هي محاولة دمج المحافظين التقليديين والليبراليين الكلاسيكيين؛ ليمثل هذا الانصهار الأساس لتحول يميني في الحزب الجمهوري.
تعرض باكلي للهجوم بسبب كاثوليكيته في مجتمع أمريكي بروتستانتي، حتى قال عنه مكجوردي بوندي، عميد جامعة هارفارد آنذاك: "يبدو غريبًا أن يتعهد أي كاثوليكي روماني بالتحدث باسم التقليد الديني في ييل"، مشيرًا إلى كتابه "الله والإنسان في جامعة ييل". كان باكلي محافظًا لدرجة أنه كان يرى أن الإيمان المسيحي استبدل بـ"إله آخر" هو التعددية الثقافية!
وفي الخمسينات وأوائل الستينات، عارض باكلي تشريع الحقوق المدنية الفيدرالية، ودعم استمرار الفصل العنصري في الجنوب. وخارج الولايات المتحدة كان عدوًا لدودًا للشيوعية، حتى أنه دعا لإسقاط الحكومات اليسارية، واستبدالها بقوى غير ديمقراطية.
ولم يكن غريبًا دعمه للدكتاتور الإسباني فرانسيسكو فرانكو، واصفًا إياه بـ"البطل القومي الأصيل"، ومشيدًا بإطاحته بالرؤساء الجمهوريين الإسبان الذين وصفهم باكلي بـ"الماركسيين العدميين"، كما تورد ناشونال ريفيو.
بدا أن الاختلافات الفكرية العميقة بين الرجلين، تعطي بُعدًا جديدًا للاختلافات بين الجناحين الكبيرين في السياسة الأمريكية، أو كما يقول فيدال نفسه في إحدى كتبه: "هناك حزب واحد فقط في الولايات المتحدة، حزب المِلْكية. هذا الحزب لديه جناحان يمينان: الجمهوري والديمقراطي. الجمهوريون متزمتون قليلًا وأكثر صلابة وأكثر تمسكًا برأسمالهم الحر من الديمقراطيين. أما الديمقراطيون، فهم أكثر عناية بدعايتهم وأكثر فسادًا، وأكثر استعدادًا من الجمهوريين لإجراء تعديلات صغيرة عندما يخرج الفقراء من السود والمناهضون للإمبريالية عن السيطرة. لكن في الأساس لا يوجد فرق بين الطرفين".
المناظرة النموذج
في عام 1968، عام الانتخابات الرئاسية، توصلت قناة "إيه بي سي" الأمريكية إلى فكرة جريئة، بإظهار العدوين اللدودين معًا على نفس الشاشة، لمناقشة الأمور السياسية والفكرية أمام الجمهور.
وكانت الفكرة صفقة كبيرة بالنسبة للشبكة، وفرصة لفيدال وباكلي ليسوقا لأفكارهما، وقبل ذلك لنفسيهما، فالجميع ضعيف أمام الشهرة، أو كما يقول فيدال: "لا ترفض أبدًا فرصة ممارسة الجنس، أو الظهور على التلفاز".
شاهد الملايين اللقاء التاريخي بين رجلين فصيحين، لكن حنقهما تغلب على فصاحتهما في بعض الأحيان، لدرجة أن يصف فيدال باكلي بـ"المتعاطف مع النازية"، فيرد باكلي عليه: "أنت رجل مغرور، وسأقوم بلكمك في وجهك المعلون حتى لن يبقى فيه مكان للمزيد".
كشفت المناظرة عن عمق الهوة بين المتناقضين الأمريكيين آنذاك. وكانت ذروة التناقض حرب فيتنام، ففي حين انتقدها فيدال بشدة، كان باكلي فخورًا باستخدام صنوف الأسلحة لتدمير هانوي، العاصمة الفيتنامية.
وبعيدًا عن التلاسن والتشنجات في المناظرة، تمكن كل واحد منهما في التعبير عن وجهة نظر متناقضة مع وجهة نظر الآخر بشكل حاد، في قضايا رئيسية مثل: العرق والفقر والقانون والنظام والحرب الباردة وأخلاقيات التدخل الخارجي وحدود التوسع الأمريكي والتعاطي مع المعارضة.
لم يكن من مثيل للمناظرة التي عكست بوضوح انقسام تحولات الشارع الأمريكي، وانقسامه. كما يزيد من رصيدها أنها جمعت بين اثنين مثّلا ذروة المثقف الأمريكي المشهور، الذي يكتب للصحافة وينخرط في فعاليات الشارع، وصاحب المواقف الجريئة، على اليمين أو اليسار.
بعد مناظرة فيدال وباكلي، عانت المناظرات والنقاشات السياسية في أمريكا، انخفاضًا كبيرًا في المستوى وفي جودة الخطاب
وكما تقول مجلة نيويورك ، فإن المناظرات السياسية بعد مناظرة فيدال وباكلي عام 1968، عانت انخفاضًا كبيرًا في المستوى، من حيث جودة الخطاب. ولم يكن هذا الانخفاض في المستوى في معزل عن حالة عامة من تدني مستوى الخطاب السياسي والفكري. وكما يقول أحد المعلقين في الفيلم الوثائقي الذي تناول المناظرة بين باكلي وفيدال، فإن "هذا التدني بعد فيدال وباكلي، ينذر بمستقبل غير سعيد".
اقرأ/ي أيضًا:
ترامب وهيلاري.. عن أسوأ مناظرة في التاريخ الأمريكي
تاريخ تدخّل الـ "CIA" في انتخابات الآخرين.. تكتيك واشنطن ضد خيارات الشعوب