تحتل المناظرة في الممارسة الفلسفية مكانة مهمة، بوصفها تقليدًا عريقًا ارتبط بها، منذ نشأتها الأولى بشبه الجزيرة الهيلينية. إلى هنا كل شيء لا يزال رهين تقليده، وصولًا إلى هذا القرن الكئيب، حيث كل شيء يرتسم كاريكاتيريًا؛ ظاهرة إعلامية.
يمثل سلافوي جيجك مادة مثيرة بما يتمتع به من روح ساخرة، تحليلات غريبة وصادمة في آن
حكمٌ قد يكون جريئًا، بيد أن الملموس من واقع يؤكده، ويثبت آليات التسليع التي طالت كل شيء، والثقافة ضمنه، تأكيدًا بذات الكيف لنبوءة أدورنو وهوركهايمر، سلعة تخاطب الصامتين من عموم المجتمع بلغة ربح المصنعِّ، يعود فيها المنتج الحي (الفكر، الأدب، الإبداع الفني..) شيئًا من الأشياء يستهلك، في سوق تحدد قوانينه في هذه الحالة مؤسسات الإنتاج الإعلامي، بما هي أداة أيديولوجية لضمان بقاء نفس عجلة التصنيع على دورانها المعتاد.
اقرأ/ي أيضًا: سباتٌ ماركسي
تزداد الأمور سخرية، حين نعلم موضوع المناظرة: السعادة في المنظورين؛ الماركسي ضد الرأسمالي. مناظرة أعلن عنها مطلع الشهر المنصرم كحدث يطبع العصر، بين سلافوي جيجك وجوردن بيترسون، رجلين يعتبران في عين الإعلام "روك ستارز" الساحة الفكرية المعاصرة.
قبل أسبوع ونصف من انعقاد المناظرة، المبرمجة اليوم، 19 نيسان/أبريل الجاري، أقفِل باب الحضور رسميًا بنفاذ الـ 3000 تذكرة المعدة لهذا الشأن، والتي تخطى سعرها عتبة 1500 دولار أمريكي. هكذا تنتظر تورونتو الكندية ومركز سوني للعرض صناعة الحدث هذه السنة، بمقابلة الرجلين المثيرين للجدل وجهًا لوجه، والخلاص من سجال دام بينهما لأشهر طويلة. بذات الكيف في انتظار ما ستؤول إليه الأمور، نقترح عليكم هذا الدليل المبسط للمناظرة.
من هم المتناظرون؟
- سلافوي جيجك
سلافوي جيجك (70 سنة)، الفيلسوف السلوفيني البارز أو فتى اليسار المرتبك وكثير الحركة، هذه أولى الصفات التي تثير انتباهك وأنت تشاهد أحد محاضراته التي تملأ اليوتيوب، أو تطالع أحد نصوصه على حد سواء، فالرجل دائما يكتب كما يتكلم؛ بحسه الساخر، وإيقاعه الخاطف أحيانًا.
"العنف تأملات في أوجهه الستة" أو "سنة الأحلام الخطيرة"، تحوي بيبليوغرافيا جيجك العديد من الكتابات، في السياسة، الفن، الفلسفة وعلم النفس. تجمع نزعاته الثلاث ومجالات اشتغاله؛ الجدلية الهيجلية، الأيديولوجية الماركسية والبنيوية النفسانية عند جاك لاكان. كما أن نظرياته كانت موضوعات لعديد من الأفلام الوثائقية، والحق يقال، أنه أكثر ظهورًا صوتًا وصورة من ظهوره كتابة. قد يكون هذا انضباطًا لروح العصر، روح سيادة السمعي البصري، حيث يمثل سلافوي جيجك مادة مثيرة لها، بما يتمتع به من روح ساخرة، تحليلات غريبة وصادمة في آن.
- جوردان بيترسون
على الجانب الآخر جوردن بيترسون، الخمسيني المتعجرف، وأحد أبواق التنظير لأيديولوجيا التفوق والشعبوية اليمينية. رجل لا يقل صناعة للزخم عن مناظره، يأتي في هذه الحالة، كما في باقي حالاته، مدافعًا عن الجانب الرأسمالي. قبل أن يتحول بيترسون إلى "مفكر"، وبعده إلى أيقونة في وسائل التواصل الاجتماعي، كان مجال اختصاصه الرئيسي هو علم النفس الإكلينيكي، والذي مارس تدريسه بكل من جامعة ألبرتا وجامعة ماكجيل.
مستعينًا بترسانة من المقولات تمزج بين النص الديني والصرامة البطريركية، يواجه بيترسون "النموذج الليبرالي الفاشل" بوصايا من قبيل: "قف مشدود القامة" و"ابدأ تغيير حياتك بتنظيف غرفتك" و"لا تفعل أشياء لا تحبها"، مفسرًا ظواهر مثل التفاوت في الأجور بين الرجال والنساء بأنه نتاج تفاوت طبيعي في القدرات. ممثلًا أحد النسخ البائسة لخرافة "التنمية الذاتية" في أقصى مداها كتعبير أيديولوجي، يدفع بهكذا وصايا شعبوية كحامل لميتافيزيقا الوجود، أو الحل لكل ما أفسدته الحرية. وبما أننا في زمن التسليع، يحظى تهريج بيترسون بمتابعات عدة وإشادة كبيرة، في لحظة تاريخية يطبعها اليأس العالمي والأزمات المتتالية.
بداية السجال!
كل شيء بدأ مع عمود نشره سلافوي جيجك على موقع إندبندنت البريطاني، معنونًا إيّاه: "لماذا يجد الناس بيترسون مقنعًا؟". منتقدا فيه أعمال جوردن بيترسون، مرجعًا الصدى الذي لقيه هذا الأخير كدليل على أن الأغلبية الصامتة، الليبرالية المحافظة، قد وجدت أخيرًا صوتها. واصفًا أعماله بكونها لا علمية، وأنها نتيجة ربط بين معطيات كاذبة والبنى البارانويا التي يعتمدها في تحليل ما يعتبره حقائق، والذي هو في الأصل "نظرية مؤامرة مجنونة"، معللًا وجود أشخاص كبيترسون وأتباعه، وإحاطتهم بكل هذا الزخم، بفشل ذريع لليسار في نموذجه المابعد حداثي.
بطبيعة الحال لم ترق بيترسون هذه الأوصاف التي رشقه جيجك بها، هكذا ردّ في تغريدة على صفحته في تويتر ساخرًا: أن هذا المقال كان حتمًا سيجعل المابعد حداثيين الفرنسيين في السبعينات فخورين به. وفي تغريدة أخرى: حقيقة، كانت انتظاراتي كبيرة. وإذا كان عندك مشكل مع "مبرراتي العلمية الباردة" كان عليك أن توطن مكامن المشكل بدلًا من أن توجه لي تعبيراتك السخيفة. منتهيًا في تغريدة أخرى إلى تحدي الفيلسوف السلوفيني، قائلًا: وفي الأخير، إذا كانت عندك رغبة في نقاش صلاحية نظرياتي. دعنا ننظم لقاء لمناقشة ذلك!
هذا ورد جيجك بدوره، في مقال كونه لا يملك حسابًا على تويتر، مؤكدا أن ربط بيترسون باليمين الشعبوي نابع من أقوال هذا الأخير، والذي يصنفه لبيراليًا راديكاليًا، يرى في حركات الأقليات والحركة النسوية تهديدًا لقيم حرية التعبير بالتصور الذي يتطرف له. هذا ما يجعلني، في نظره، ما بعد حداثي دوغمائي، ملقيًا عليّ ما يتصف به من أوصاف. بالمقابل، يحاول سلافوي تبريء نفسه، مبينا أن أعماله دائما تنتقد التفكيكية المابعد حداثية، وأنه بدوره تعرض للهجوم من قبل يسار الأقليات عندما طرح مشكلة الصوابية السياسية. نافيًا توفره على حسابات رسمية في مواقع التواصل الاجتماعي، أعلن سلافوي جيجك قبوله لتحدي بيترسون بالتناظر وجهًا لوجه.
إضاعة الوقت في السعادة: الماركسية ضد الرأسمالية
في مقال نقدي على موقع "The Stranger" الأمريكي، يعنونه صاحبه تشارلز موديدي، الكاتب والمخرج السينمائي الأمريكي: "لا شيء أكثر إضاعة للوقت من مناظرة جيجك وبيترسون". يبين مدى سخافة وعبثية المناظرة المزمع إقامتها اليوم، معلنًا بصراحة أن: لا شيء جيد يمكن أن ينتج من هذا النقاش. معللًا، أن أولئك الذين يعبدون بيترسون لن يربحوا من سلافوي جيجك شيئًا، الفيلسوف السلوفيني الذي إذا جردت نظرياته الناقدة لأشكال وتمثلات الثقافة الغربية من خلفياتها اللاكانية أو الهيجيلية أو الماركسية، تفقد قوتها مكرسة الانحطاط الذي تعرفه تنظيرات جيجك الأخيرة، وقبوله التناظر مع بيترسون أحد الأدلة على الانحطاط.
يكتب تشارلز موديدي، الكاتب والمخرج السينمائي الأمريكي: لا شيء أكثر إضاعة للوقت وتجسيدًا للانحطاط من مناظرة جيجك وبيترسون
بالنسبة لبيترسون، ليس لأي مما يقول أو يكتب علاقة بواقع الإنسان، ربما بواقع الغوريلا أو القردة، يقول ذات المقال ساخرًا، كما أن مواقفه ضد النخبوية الماركسية ليست ذات قيمة، ولا ترقى لتمثل نقدًا جادًا. لكن ما يجعل النقاش في عمومه عبثيًا، هو أن بيترسون مؤمن مخلص بأن الرأسمالية كسبت رهانها الاقتصادي في وجه الاشتراكية، فالبداية من هذه القاعدة التي تفتقد أدنى دقة تاريخية، تفقد الواقع التاريخي واقعيته وتعيده مبهم المراحل.
من هذا المنظور، وأكثر، تكون المناظرة في مجملها مفرغة المعنى، مناكفة مراهقة أكثر من كونها نقاشًا جاد. ظاهرة إعلامية حيث الحدث كل شيء والفائدة لا شيء، أو بالأحرى الفائدة هي عدد المشاهدات التي يحصدها اللقاء، مجسدة ما تحدثنا عنه في بداية النص: تسليع الثقافة، أو الثقافة كسلعة تحتكم في إنتاجها لنفس عمليات إنتاج السلع، ولنفس طبيعتها التي يفرضها السوق؛ محكومة بتاريخ صلاحية.
اقرأ/ي أيضًا: