يقدم "أرشيف الشارخ الالكتروني للمجلات الأدبية والثقافية العربية" مادة غزيرة للقراءة: نحو 310 آلاف مقالة لأكثر من 47 ألف كاتب في نحو 15 ألف عدد من 248 مجلة، وبمجموع صفحات يبلغ مليون و900 ألف صفحة تقريبًا.
يجسد أرشيف الشارخ تاريخًا دقيقًا لمسيرة الأدب والثقافة العربيين منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى أيامنا
نحن، إذًا، أمام بحر شاسع من الكلمات، يحتاج مجرد التسكع على شطآنه إلى سنوات طويلة. وفضلًا عن المتعة التي تمنحها قراءة المقالات والدراسات المنشورة، فإن الأرشيف يجسد تاريخًا دقيقًا لمسيرة الأدب والثقافة العربيين منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى أيامنا هذه: المفاهيم المتغيرة من عصر إلى آخر، الهواجس والقضايا المختلفة التي شغلت الأجيال المتلاحقة، المعارك الفكرية، تطور الأساليب الكتابية والفنية..
اقرأ/ي أيضًا: أمل جديد للموتى!
وإذا كان متعذرًا على مقال صحفي أن يحيط بتفاصيل هذا التاريخ (أو حتى بكل خطوطه العريضة) فلكتفي هنا ببضع ملاحظات على هامشه:
شهد عقدا الخمسينات والستينات من القرن العشرين حراكًا ثقافيًا لافتًا. صعدت القصة القصيرة وتبلورت فيها اتجاهات جديدة على أيدي شبان سوف يعرفون بـ"جيل الستينات الذهبي"، وتابعت الرواية صعودها متجاوزة تجاربها التأسيسية التي شهدتها السنوات السابقة، فيما كان الشعر ينطلق بقوة إلى "الحداثة"، وكذلك فقد عاش المسرح لحظة مجده التي لا يزال يبكيها إلى اليوم. وبالتوازي مع ذلك، وربما بسببه، ازدهر النقد الأدبي وانخرط فيه الكثير من المفكرين والأكاديميين والقاصين والشعراء.
ولكن هذا الزمن، الذي طوبه كثيرون "عصرًا ذهبيًا"، كان ملوثًا بالأيديولوجيا. النَفَس الأيديولوجي يبدو فاقعًا في كثير من المقالات التي تنتمي إلى تلك الحقبة (واستمر بشكل أو بآخر حتى أواخر الثمانينات)، وكانت الوحدة العربية والقومية العربية والتوجه الاشتراكي والانحياز للجماهير.. مفاهيم مقدسة، وجدت بين النقاد من استخدمها مطارق ثقيلة على رؤوس الأدباء الناشزين.
في عدد أيلول/سبتمبر عام 1956 من مجلة "الآداب"، مثلًا، كتب جورج طرابيشي مقالًا نقديًا حول المجموعة القصصية "مساء الخير يا جدعان" للكاتب المصري بدر نشأت، وقد أخذ الناقد على القاص أن قصصه تتسم بالسلبية، ذلك أن "الشعب الكادح ليس هو بطلها"، أما عن الحوار المكتوب باللهجة العامية المصرية فقد كتب طرابيشي: "إن الكتابة بالعامية تآمر واضح على القومية العربية"!
وكتب الناقد والمفكر المصري غالي شكري مقالًا جاء فيه على ذكر التراث الفرعوني في مصر، فما كان من الكاتب السوري علي بدور إلا أن اتهمه بـ "الشعوبية ومعاداة الحركة القومية والوقوف إلى جانب الاستعمار"، وحسب تعبير شكري في رده، فإن "شقًا واحدًا من هذه الدعوى يكفي كثيرًا لصنع أعظم مشنقة" (الآداب عدد آذار/مارس 1960).
كيف يكون في هذا العصر، عصر الثورة، حزن ومرارة وأسى، ونحن نشهد هذه النهضة ونشيد هذه الصروح؟! هكذا كتب محمود أمين العالم مطلع الستينات!
وغالي شكري نفسه لم يكن بريئًا من الأيديولوجيا، إذ قرأ مسرحية "نيكراسوف" لجان بول سارتر على خلفية "انهيار قيمي وأخلاقي في المعسكر الرأسمالي"، حيث من "الطبيعي أن تصدر المكارثية عن مجتمع يرسف أبناؤه في قيود نظام يحس في أعماقه بحاجة شديدة إلى الحماية.. لا إلى الحرية"، وفي الجانب المقابل "فالمعسكر الاشتراكي لا يتوانى في إطلاق الحريات، واستئصال العوائق الجذرية التي تحول دون أن تتفتح كل الأزهار"! (الآداب أيار/مايو 1960).
اقرأ/ي أيضًا: سحر الكتب.. عن إعادة اقتناء الكتاب نفسه مرةً تلو الأخرى
وقد أطلق محمود أمين العالم، مطلع الستينات، معركة أدبية استمرت شهورًا، انخرط فيها أدباء ونقاد كثر، وذلك بعد أن شاهد مسرحية "الفرافير" ليوسف إدريس، وقرأ ديوانًا جديدًا لصلاح عبد الصبور، فتساءل كيف يكون في هذا العصر، عصر الثورة، حزن ومرارة وأسى، ونحن نشهد هذه النهضة، ونشيد هذه الصروح، ونشغل كل هذه المصانع؟! ويتحدث غالب هلسا عن محمود العالم ومعركته بأسلوب ساخر: "المسألة في ذهنه واضحة كل الوضوح، ومن عجب أن الآخرين عجزوا عن فهمها واتخاذ الموقف الصحيح منها: فلو أن أحدًا رفسك حتى ابيضت عيناك، أو لو أن إهانة لحقت بك ولم تستطع لها ردًا، فما عليك إلا تتنشق دخان المصانع حتى يمتلئ قلبك بالسرور وتغرد كعصفور ربيعي".
وعلى ذكر المعارك، فمنذ عشرينيات القرن المنصرم وإلى عقود عديدة لاحقة والمعارك الأدبية والفكرية لم تتوقف، وقد دارت حول قضايا وإشكاليات مختلفة: القديم والجديد، شعر الحداثة، الفصحى والعامية، الحرية والالتزام..
وإذا كان يحلو للبعض أن يصور خصوم تلك الأزمنة كفرسان لا يحيدون عن تقاليد النبالة السامية، فإن الواقع يكذب ذلك، فكثيرًا ما كانت المعارك تنطلق أدبية وفكرية ثم تتحول إلى شخصية، لا يتوانى فيها المتعاركون عن الغمز واللمز والضرب تحت الحزام. فقد كتب توفيق الحكيم في مجلة "الرسالة" عام 1942 حول ضرورة أن يعم الصفاء وجو المودة بين الأدباء، ملاحظًا أن عدد أدباء مصر من المواظبين والمجيدين لا يتعدى العشرة ومع ذلك يسود بينهم الخصام والتنافر. والغريب أن دعوة المحبة هذه أثارت معركة لا أثر فيها للمحبة، وذلك عندما رد عباس محمود العقاد بأن الحكيم يحاول الإيقاع بينه وبين طه حسين!.
ومقابل عميد الأدب العربي الذي عرف بالتلطف وسعة الصدر إزاء خصومه، فإن العقاد كان قاسيًا سليط اللسان، ولا سيما في معركته مع محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس، والتي قال عنها: "أنا لا أناقشهما، بل أضبطهما. إنهما شيوعيان"!
وثمة سؤال جدير بأن يطرح هنا: لماذا اختفت المعارك من حياتنا الثقافية الراهنة؟ هل حسمنا كل الخلافات وأجبنا عن كل الأسئلة؟ أم أن المعارك الراهنة، المعارك الحقيقية.. معارك الرصاص والقنابل، قد جعلت كل ما عداها مجرد ترف لا يليق بهذه الأزمنة؟
مر زمن كان فيه المقال الأدبي مزدهرًا، حيث كان نجوم الأدب والفكر كتاّب مقالات قبل أي شيء آخر، أما اليوم فبات عنوانًا لطراز عتيق من الكتابة الأدبية
ملاحظة أخرى مستخلصة من أرشيف الشارخ: لقد مر زمن كان فيه المقال الأدبي مزدهرًا، حيث كان نجوم الأدب، والفكر والشأن العام.. كتاب مقالات قبل أي شيء آخر: رفاعة الطهطاوي وعبد الله النديم ومحمد عبده والعقاد والمازني وطه حسين وخليل مطران وأديب اسحق وسليم النقاش وأحمد أمين.. أما اليوم فإن المقال الأدبي بات عنوانًا لطراز عتيق من الكتابة الأدبية، والمؤلفون الذين يصطحبون نتاجاتهم، والتي ليست بقصص أو روايات أو شعر، إلى المطبعة صاروا يفضلون إدراجها تحت تنويعات من العناوين العريضة الأكثر "حداثة": "نصوص، كتابات، نثر..".
اقرأ/ي أيضًا: "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" تتيح أرشيف جريدة "القدس" مجانًا
هذا التراجع ليس مقتصرًا على المشهد الأدبي العربي، فمعظم الكتابات النقدية الغربية باتت تحصر الأدب في أنواع ثلاثة: "الشعر والقصة الخيالية والمسرح". الشيء الذي دفع الكاتب الأميركي أي . بي . وايت إلى القول إن "كاتب المقال انكب على جنس مهمش ولا بد أن يقنع بالدور الذي فرضه على نفسه بأنه مواطن من الدرجة الثانية".
اقرأ/ي أيضًا: