لم يكن الفنان والمهندس المعماري الشاب ألبرت شبير (1905 - 1981) يتوقع، رغم طموحه وفضوله الكبيرين، أن خطواته التي قادته إلى تلك التظاهرة النازية، في برلين عام 1930، بفعل فضوله وطموحه الكبيرين، ستقوده ليكون الساعد الأيمن للزعيم النازي أدولف هتلر، كمستشار فني يعيد بناء أهم مؤسسات الحزب ومقراته وواجهات العمارات الكبرى واختيار النصب التذكارية، ومن ثم وزيرًا للتصنيع الحربي، حتى أنه صمم ساحات الاحتفال بأضواء وكشافات خاصة، كي تعقد الاحتفالات ليلًا ليضفي التأثير الضوئي الضروري على الحشود وخلق الهيبة والعظمة على الاحتفالات.
كان شبير شخصًا محظوظًا ويجيد إعادة اختراع نفسه، حتى أن بعض الإعلاميين الألمان وصفوه بـ"النازي الصالح" لأنه لا ينفذ ما يطلب منه، حسب، بل "يبدع" فيه، ولا يتولى إنتاج المجهود التسليحي بالكميات الرسمية بل "يزيد" منه!
يحضر شبير تظاهرة ثانية ولكنها بقيادة جوزيف غوبلز، وزير دعاية هتلر، فيما بعد، فيصاب بنوع من التأثير السحري بفعل جنون الجموع!
من هنا بدأ الافتراق الحاسم بين الفنان المعماري الحالم والسياسي الطموح القادم في أعماق نفسه ليصبح عضوًا في الحزب النازي برقم 474481.
كان شبير شخصًا محظوظًا ويجيد إعادة اختراع نفسه، حتى أن بعض الإعلاميين الألمان وصفوه بـ"النازي الصالح" لأنه لا ينفذ ما يطلب منه، حسب، بل "يبدع" فيه، ولا يتولى إنتاج المجهود التسليحي بالكميات الرسمية بل "يزيد" منه!
أما أعظم ضربات الحظ في حياته فهي عندما أفلت من حبل المشنقة، بعد سقوط الرايخ واستسلام ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، وحُكم عليه بعشرين عامًا سجنًا لا أكثر!
لماذا؟ لأنه عبّر عن ندمه واعترافه بجريمة اللجوء إلى استخدام عمال السخرة أثناء الحرب خلال عمليات الإنتاج الحربي، وهو اعتراف جزئي بمثابة رشوة للقضاء، سيكتفون به ولا يهمهم طرح سؤال مثل من هم عمال السخرة هؤلاء؟ وما مصيرهم؟
إنهم اليهود الذين وضع شبير 700 ألف منهم قيد الاعتقال في معسكرات بلغ عددها ما يقرب من 300 معسكر، أشهرها بوخنفالد وأوشفيتز وداخاو وأورانينبورغ ورافنسبروك وغيرها، إضافة إلى 70 ألف مهجر في نهاية الثلاثينيات، جلهم من اليهود.
ولأنه "خبير فن" تمكّن من الاستيلاء على أفضل الأعمال الفنية والتحف والأنتيك من أصحابها الشرعيين، بالقوة أو بمبالغ زهيدة، وأغلبهم من اليهود أيضًا، وتم تداول مثل هذه الأعمال في السوق من دون أن يعرف أحد أصحابها الشرعيين.
بل إن شبير باع عددًا من لوحات هتلر نفسه!
زار شبير لندن، بعد إطلاق سراحه، باسم مستعار لكن سلطات المطار اكتشفت هويته الحقيقية، فلم يسمحوا له بالبقاء أكثر من 48 ساعة.
الإمبراطور البلشفي جوزيف ستالين أُعجب بالمهندس المعماري الفنان، ودعاه إلى زيارة موسكو عام 1940، لكن هتلر رفض الموافقة على الدعوة خوفًا من أن يضع ستالين شبير في "حفرة الجرذان"، كما أن شبير نفسه لم يكن مطمئنًا لتلك الدعوة.
لا يعقد شبير الصداقات، مع النساء والرجال معًا، وهذا شأن الشخصيات شديدة الحساسية والاحتراس، لكنه اعترف لزوجته الألمانية بعلاقته الغرامية مع سيدة بريطانية، أصبحت زوجته بعد انفصاله عن سابقتها.
تمكّن ألبرت شبير من الاستيلاء على أفضل الأعمال الفنية والتحف من أصحابها الشرعيين، بالقوة أو بمبالغ زهيدة، وأغلبهم من اليهود أيضًا
غالبًا ما تختار الأحزاب الفاشية والنازية أسماء ذات وقع جذّاب، فالنازية ظاهرة فكرية وسياسية وعسكرية، منذ عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، قامت على أيدي المنتمين لـ"الحزب القومي الاشتراكي العمالي الألماني"!
استهوت الفكرة/الحزب جيل الشبان الساخط إثر هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى وشيوع روح الثأر وإعادة الروح للفكرة الألمانية العليا، بعنصرها الآري المتفوق. بما يشبه "بعث" الأمة والنهوض بها ومحاربة كل الأجناس الأخرى والعناصر المخالفة والمعيقة لـ"لمسيرة القومية الاشتراكية" لاستعادة مجد الأمة.
السطور الأخيرة، توضيح محض، لإطلاع الشبان العراقيين، والأجيال اللاحقة، على تاريخ الفكرة القومية المتطرفة التي تسحق الآخر لتمر وتستمر وتتسلط، إذ كانت النازية الألمانية والفاشية الإيطالية ملهمين رئيسين للكثير من الحركات والأحزاب القومية (الاشتراكية) العربية، بنظمها العسكرتارية الانقلابية، المعادية للديمقراطية، التي حكمت منطقتنا العربية، وخصوصًا العراق.
ثمة أكثر من ألبرت شبير في تاريخنا القريب، وقد يظهر في المستقبل أيضًا.