ومن بعيد تصل دعواتها التي تغمرني بالسلم، وهي أمي الغافية اليوم على بيتها لا تغادره مهما حصل، وقد أقسمت بينها وبين روحها على أن لا تخرج منه إلا إلى النهاية. وأما نحن طيورها الذين تشردنا في بلاد الله الواسعة فما زالت تحلم بعودتنا إلى العش الدافئ، حيث كل ذكرياتنا عيدان أغصان لملمتها بفمها عودًا وراء عود.
في الشام وريفها تتوازع الأمهات أدوار البقاء والتعب، ويحمين ما تبقى لنا من أمل
هناك في الشام وريفها تتوازع الأمهات أدوار البقاء والتعب، ويحمين ما تبقى لنا من أمل، ويحرسن أحلامنا وخطواتنا، ولكنهن بلا أجنحة، وبتن على مفترق الوجع يلتفتن إلى طرقات صنعها الجري وراء أولاد الصغر، وشباب الأيام الجميلة حيث تنظر الأم إلى ابنها كرجلها الجديد، الرجل الذي يعيد لها وجه أبيه الذي شاخَ من شدة التعب والعمر.
اقرأ/ي أيضًا: كيتي كولفز.. سواد الحرب والتاريخ
على الرصيف المواجه تمامًا لسوق باب السريجة أم تحاول أن تنتشل صغارها من الجوع. هنا في زحمة الموت والغلاء تبيح الأم كبريائها الذي تعب، فالصغار كسر الجوع أرواحهم، وأمام وجوههم المصفرة تباح الكرامات الحانية. في الجسر الأبيض، وبين المتسوقين تصر العجوز الوحيدة على كرامتها، وتبيع ما خبزته يداها المجعدتان، ولا تأبه لعمرها الموزع بين الحواجز وأسئلة العساكر عم في كيسها الأبيض، ولكن رائحة الخبز الشهي تلجم الألسنة السليطة.
في صلاتها الطويلة جبين أم ابراهيم لا يرتفع عن الأرض، تمر جنازات الأولاد الذين تساقطوا في كل الطرقات والمناطق السورية، وتمر أمامها أحلامها ببيوت جديدة وأحفاد يملؤون العمر صراخًا ولعبًا، ولكنهم مع دعواتها يمرون غرقى وقتلى ومهجّرين.
مات زوجها، ولم تزل تقاتل من أجل أن لا يموت الخبز في بيتها، وألا يشعر الصغار بأن شيئًا قد تغير، زوج ريما المختفي منذ سنوات ما زال حيًا في روحها، وما زال الصغار يسألون عن أبيهم المسافر، وبعيدًا عن عيونهم يغمرها البكاء الصامت نحيب امرأة خسرت في صراع الحياة.
رغم كل دعواتها لهم في صلواتها، يعبر الأولاد والأحفاد غرقى وقتلى ومهجّرين
فاطمة لم تصدق بعد أن أحمد قد مات بطلقة مجهولة، وأن هذا الولد الوحيد الذي تجره من يده صباح مساء هو النسخة الكاملة عن رجل أحبته لسنوات قبل أن تستطيع إقناع ذويها بقبوله. فارس الصغير يدمر حياتها الجافة ولكنه بنفس الوقت يحرضها على عدم الانتحار. فارس يترك لها فسحة صلح مع العالم.
اقرأ/ي أيضًا: نون النّسوة في المقاومة الفلسطينية
لم تصدق أنها تجرأت أن تخوض وحيدة مع أطفالها هذه البحار البعيدة، وهي التي لم تغادر قريتها في المدينة النائية، كانت بشرى زوجة ابن عمها الذي أحبته بحكم أن عالمها لا يتسع إلا لرجل واحد (حلال)، هو الذي خرج منذ ثلاث سنوات ولم يعد، قيلت رواويات كثيرة عن اختفائه آخرها هي أن أحد ما اتصل به وخرج فجأة، ولم يعد لكن بعض أبناء القرية لمحوه يركب سيارة عسكرية، ثلاث سنوات كانت تكفيها لأن تغادر قريتها إلى الحدود ثم إلى البحر، لتعيش في مدينة صاخبة تبحث عمن يربي أطفالها بدون ذل، لكنها ما زالت تنتظر هاتفًا من بعيد يقول لها: لقد عدت.
في هذا اليوم بالضبط وحيدات، باكيات، مريضات، صامدات. أمهات سوريات يبتلعن الأسى مثل وطن على حد سكين.
اقرأ/ي أيضًا: