تعد الدراما التلفزيونية أبرز عناصر المشهد الفني السوري في السنين السابقة لانطلاق الثورة السورية عام 2011. شكلت هذه الدراما حالة شعبية لافتة وأثرت بالمجتمع إلى حد كبير، ولا زالت بعض الأعمال الدرامية حاضرة في ذاكرة السوريين لليوم، فمثلًا لا يذكر اسم "مفيد" في سوريا دون ربطه بلقب الوحش، تلك الشخصية الحية منذ العام 1994 بعد تقديمها في مسلسل نهاية رجل شجاع، وغيره من الأعمال مثل ضيعة ضايعة ومرايا وغزلان في غابة الذئاب، إلخ.
واجهت الدراما السورية في مسيرة توهجها منذ أوائل التسعينات العديد من المشاكل وكذلك وقعت في العديد من المطبات، من أبرزها التنميط
لم يتوقف نجاح الدراما السورية عند الحدود المحلية بل اتسع ووصل إلى كل بيت عربي، وبات المسلسل السوري حاضرًا بقوة خصوصًا في موسم رمضان، حتى أنه نافس المصري وتفوق عليه أحيانا في بعض سنوات التراجع للدراما المصرية، وساهم هذا الانتشار بتعرف العرب إلى السوريين عن قرب ورؤية بلادهم ومجتمعاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، خصوصًا العرب الأبعد مسافة عن الشام أي المغاربة.
اقرأ/ي أيضًا: رافي وهبي: العراب 2 كان للقضاء على مشروعي
لعب السوريون أيضًا دورًا كبيرًا في عملية الدبلاج التركي، وعلى الأصح لعبوا الدور كله وكانوا هم من قدموا أول عمل تركي مدبلج بعد أن بدأت تتحسن العلاقات بين النظام السوري وحكومة العدالة والتنمية في أنقرة، حيث تحولت تركيا من وريث الاحتلال العثماني المستبد إلى دولة صديقة، وكان لأعمال الدوبلاج هذه اليد الطولى في تفشي اللهجة السورية أكثر من أي عنصر ثقافي سوري آخر في العالم العربي.
مع ذلك، واجهت الدراما السورية في مسيرة توهجها منذ أوائل التسعينات العديد من المشاكل وكذلك وقعت في العديد من المطبات، من أبرزها التنميط، وبشكل خاص التنميط الاجتماعي بين أبناء المحافظات السورية، أي العمل على وضعهم ضمن قوالب ثابتة وتصويرهم ضمن نمط معين لا يخرجون منه إلا ما ندر، وكانت اللهجات أداة سهلة لذلك، وهو الفعل الذي يعتبره البعض ممنهجًا من النظام الحاكم، في حين ترى وجهة نظر أخرى أنه مستوحى من قوالب يضع فيها السوريون أنفسهم، لكن الأمر حتمًا لم يأت مصادفة.
في الدراما السورية، ظهرت المجتمعات المحلية بصورة مغايرة تمامًا عما هي عليه، وقدمت الأعمال البيئية دائمًا في قالب سطحي لم ينج منه سوى المسلسل الاجتماعي الحلبي خان الحرير، الذي قدم بجزئيه صورة متكاملة للمجتمع الحلبي في فترة الخمسينات حتى نهاية الوحدة مع مصر، فيما عدا ذلك ظهر الحلبي في الدراما السورية سمجًا وثقيل دم، وظهر أبناء المنطقة الشرقية متأخرين وكأنهم ما زالوا في الكهوف والخيام، أما الحضور الحمصي النادر فتجسد بشخصية فرحان في مسلسل عيلة 5 نجوم، وظهر ساذجًا. أهل السويداء حوصروا بصورة القروي البسيط وأهل الساحل في خندق الشخصية الأمنية، حتى ظهر مسلسل ضيعة ضايعة.
عملية التنميط الكبرى في الدراما السورية بدأت في العام 2006 ولم تنته حتى اليوم، بل بدأت تقتبس من التجارب السابقة في الأجزاء الأخيرة. كان على رأس هذه المرحلة من التنميط بدون شك مسلسل باب الحارة، العمل الذي صنف ضمن ما يسمى "أعمال البيئة الشامية"، وحاصر المجتمع السوري كله داخل أسوار حارة الضبع، فلم يكن السوريون سوى قسمين، هما كبار الحارة، تلفظ باللهجة الشامية "الأعضاوات"، وعامة الشعب الذين يعيشون صراعًا مع المخفر الذي يمثل الاحتلال الفرنسي.
تجاهل هذا المسلسل كل فئات المجتمع من أطباء ومهندسين وسياسيين وصحافيين وغيرهم في ذلك الوقت، وهذه مواضيع تناولها الكثيرون في السنوات الماضية، إلا أن الأذى الكبير الذي ألحقه هذا المسلسل بالسوريين هو تنميط صورتهم ولهجتهم وعاداتهم وتقاليدهم على المستوى العربي.
اقرأ/ي أيضًا: جمال سليمان: السوق لا يريد أن يتحدث عن سوريا
مرت سنوات على خروج السوريين من بلادهم مهجرين قسريًا ومنتشرين في جميع بقاع الأرض، منها دول عربية بعيدة عن سوريا جغرافيًا كتونس (والتوانسة يتحدثون السورية بطلاقة ملفتة)، إضافة للمغرب والجزائر طبعًا، ودول غير عربية في أوروبا تحوي جاليات عربية كبرى، وجميعهم يتقنون تلك الشامية المبالغ فيها، التي يتحدثها العكيد أبو شهاب ورفاقه. يبدو الموضوع لطيفًا ومحببًا في البداية، خصوصًا أنه يأتي بداعي التودد، ثم يتحول بالممارسة إلى حالة مزعجة.
وضع باب الحارة الشاب السوري في قالب الذكوري ووضع المرأة السورية في قالب السيدة المستكينة في الظاهر، لكنها تسعى إلى حياكة المكائد خلف زوجها، ووضعنا في قالب لهجة لم يعد يتحدثها أحد في البلاد تقريبًا، وكذلك فعلت دبلجة المسلسلات التركية التي عن قصد أو غير قصد ذهبت لصناعة لهجة لا يعرفها السوريون في حياتهم اليومية، حتى يقول لك عربي شقيق "لهجتك مش سورية، غير الي منسمعها في التلفزيون"، وهنا تسقط أسوار "حارة الضبع" أمامه. نعم يا عزيزي، فأنا لست العكيد أبو شهاب، ولا هي سعاد خانم، ولا هذا منّا ولا نحن منه في الوقت الحالي.
اقرأ/ي أيضًا: