لا يمكن القول بأن مشروع المفكر الفلسطيني الراحل أنيس صايغ (1931-2009) قد بدأ بالبرقية التي حملها إليه أخوه فايز صايغ، مدير مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية ومؤسسه في 1966، يبلغه فيها برغبة أول رئيس لمنظمة التحرير آنذاك أحمد الشقيري بلقائه.
عمل أنيس صايغ على إصدار "الموسوعة الفلسطينية"، التي وصلت إلى أحد عشر مجلدًا
لكن اللقاء، الذي أُبلغ فيه أنيس بتكليفه بالعمل على إصدار موسوعة فلسطينية من قبل الشقيري، كان مقدمة لرحلة طويلة من العمل الجاد على أصعدة كثيرة. استقال فايز صايغ، الأخ الأكبر، من رئاسة مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير بعد ذلك بقليل، ليُكلف أنيس لاحقًا برئاسة هذا المركز حتى استقالته بعد عشر سنوات.
يقول في سيرته التي جاءت بعنوان "أنيس صايغ عن أنيس صايغ" (دار الريس، 2006): "هذا هو الذي نصّب مركز الأبحاث على عرش الثقافة الفلسطينية المؤسسية في السبعينيات من القرن العشرين. أعترف بأني مدين في نجاح المركز إلى ثلاثة: إلى رئيس منظمة التحرير الفلسطينية أحمد الشقيري الذي رعى المركز ويسر له الحماية، وإلى فايز صايغ الذي أرسى قواعد العمل وفروعه وأسلوبه، أدين أخيرًا إلى الاحتضان الرائع الذي حظي به المركز من جمهرة المثقفين العرب".
أسس في تلك الفترة مكتبة ضخمة تحوي أكثر من ثلاثة عشر ألف كتاب إلى جانب الوثائق والخرائط والمستندات والأرشيف. مصدرًا بعد ذلك مجلة "شؤون فلسطينية" الشهرية، وسلسلة "اليوميات الفلسطينية"، و"نشرة رصد إذاعة إسرائيل" اليومية، و"سلسلة الدراسات الفلسطينية"، بالإضافة الى أحد عشر مجلدًا تحت اسم "موسوعة فلسطين".
في إطار ذلك كله لم يقتصر دفاع أنيس صايغ عن فلسطين في هامش المعارك التي يعلن في نهاياتها أعداد الضحايا والناجين فقط؛ ثمة انشغالات يجمع عليها الباحثون والمتتبعون بأن ما ذهب إليه الرجل في رحلة عمله الطويلة لأكثر من خمسين عامًا، قضى جلّها في مراكز الأبحاث والسياسات؛ قد ذهبت بالقضية الفلسطينية من سكّتها العاطفية الشكوانية إلى سكّة جديدة محمولة على روح التوثيق والبحث الجديين، توثيق وبحث هدفه تأصيل وأرشفة الوجود الفلسطيني عبر التاريخ في الوقت الذي كان من العسير الحصول على وثائق بحثية علمية موثوقة تتحدث عن هذا الوجود قبل ذلك.
تعرض صايغ إلى ثلاث محاولات اغتيال، أخطرها في 1972 عندما انفجر طرد بريدي بيديه
أمضى صاحب كتاب "فلسطين والقومية العربية" 1967، معظم أوقات حياته في العاصمة اللبنانية بيروت، قبل أن يرحل في عمّان (كانون أول 2009)، مصدرًا أول كتبه فيها "لبنان الطائفي" 1955 يقول فيه: "أنا القادم من فلسطين لا أعرف للطائفية معنى". لحقه بعد ذلك كتاب "سوريا في الأدب المصري القديم" 1957، ثم لحقه بعد ذلك أكثر من عشرة كتب منها: "جدار العار"، و"الفكرة العربية في مصر"، وفي "مفهوم الزعامة السياسية"، و"بلدانية فلسطين المحتلة" وأخرى.
تعرض صايغ إلى ثلاث محاولات اغتيال كان أخطرها في تموز/يوليو من العام 1972 عندما انفجر طرد بريدي بيديه أرسلته المخابرات الإسرائيلية إلى بيته مما أفقده جزءًا من سمعه وبصره، كما تضررت يده بفقدان بعض أصابعه. بعد عامين أيضًا وفي كانون أول/ديسمبر، أطلقت طائرة إسرائيلية ثلاثة صواريخ باتجاه مركز الأبحاث كادت تودي بحياته وحياة من فيه. بالإضافة إلى ثلاث اعتداءات نفذتها إسرائيل على المركز في بداية السبعينيات، ولاحقًا احتلاله بعد اجتياح بيروت من العام 1982 وسرقة وثائقه والكثير من كتبه، وتفجير مرافقه في العام 1983.
في سيرته يقول أيضًا: "إنني أحمل قلبًا إنسانيًا يضخ دمه العربي في شرايينٍ بعضها فلسطيني وبعضها لبناني وبعضها سوري: شريان النضال الفلسطيني من أجل التحرير الكامل وإسقاط الاغتصاب. وشريان الثقافة والعصرنة اللبناني المنفتح على الحضارة العالمية. وشريان الإباء والشموخ والاعتزاز السوري التواق إلى الوحدة والانطلاق"، ويقول أيضًا: "في طبريا وعلى الطريق إلى طبريا، يطيب الموت، لأن المرء يموت واقفًا، وكأنه لا يموت، ولعله لا يموت. هناك يتساوى الموت مع الحياة حلاوة. ودون ذلك تتساوى الحياة مع الموت مرارة".
اقرأ/ي أيضًا: