هذه ترجمة لمقال الكاتب ماركو برسانيللي، أستاذ فيزياء النجوم في جامعة ميلانو، المنشور في 22 آب/أغسطس في جريدة "Quotidianomeetin".
الحياة البيولوجية هي خبرة نعيشها دون أن نعيها في أغلب الأحيان. تسري الحياة في أجسادنا، ترافق وعينا بوجودنا ولكننا لا نشعر بها ولا نلتفت إليها. عندما نستوعب هدير تلك الحياة في قلوبنا، في رئتنا، في الشرايين، في الأمعاء وفي كل عضو من أعضاء أجسادنا تصيبنا الدهشة، ويصيبنا الدوار.
تتكون أجساد الكائنات الحية من نفس المادة، ومن نفس الجزئيات الأولية التي تشكل أجرام النجوم
لسنا - نحن البشر - وحدنا نملك الحياة، لا أحد منا يمكنه أن يجحد نبض الحياة في قلب قط، أو انسيابها في أوعية زهرة تتفتح، نحن فقط أتيح لنا أن ندرك هذه الظاهرة الغامضة وغير البديهية (لأنها لا تتوقف عن إدهاشنا) التي نسميها الحياة.
اقرأ/ي أيضًا: باختصار.. ما هي الفيروسات وكيف يمكن مقاومتها؟
تتكون أجساد الكائنات الحية من نفس المادة، ومن نفس الجزئيات الأولية التي تشكل أجرام النجوم، يضع العلم أمام أعيننا، ولو بشكل جزئي، الشروط المتباينة، والصيغ المتعددة التي تتشكل خلالها تلك الأجسام، حتى تصل إلى تلك الدرجة في الطبيعة، تلك الحالة التي يمكن أن نصفها فيها بـ"الحية".
الرهافة التي يتميز بها كل كائن حي، حتى أشد الكائنات الحية بساطة، ماهية الكائن الحي، كونه الفاعل في تاريخه الخاص، علاقته البناءة بالعالم خارجه، وبالآخر، هشاشته، طبيعته الفانية، الظهور اللا متوقع لقوانين بسيطة تحكم سلوكه وسلوك كل الكائنات الحية على ظهر الكوكب، السمات التي تجعل معجزة التطور البيولوجي ممكنة، هذه الأشياء كلها مكامن للدهشة، عندما نتأملها وغيرها من عجائب عالم الأحياء، لا نملك إلا أن نندهش، ونسلم عقولنا للفضول الذي سيقوم بمطاردة حضورها، طبيعتها، نظامها، تاريخها، ندائها، جمالها.
نعيش في زمن يتفتح فيه وعينا على هشاشة حياتنا، الشخصية والاجتماعية، وهو ما يجعلنا أكثر قدرة من ذي قبل على أن ندرك، على نحو أعمق، عالم الأحياء بوصفه معطى استثنائي، يمنح وجودنا في هذا الكون معنى. فإذا كان الكون قد احتاج إلى 14 مليار سنة لتتكون ورقة شجر، فإننا لن نحتاج إلا إلى لحظة من الوعي حتى لا نضيع حضور تلك الورقة.
يقول سكوت جيلبيرت إن التركيب البيولوجي الخاص بالإنسان من جوانب متعددة شيء مدهش ومرعب في آن واحد. من أكثر سمات الإنسان إدهاشًا ورعبًا هو أنه ليس "فردًا"، كما يعتقد، وإنما هو مجموعة من "الأفراد". من منظور بيولوجي الإنسان عبارة عن "حيوم"، أي نظام بيئي يحتوي على مئات الأجناس من الكائنات الحية. الإنسان يظن أنه "كائن واحد"، ولكنه ليس كذلك، بل هو مجموعة من الكائنات الحية تجتمع داخله على مدار نموه، على سبيل المثال 50 % من خلايا الإنسان من أصل ميكروبي، وهي ليست موجودة في جسد الجنين، بل يكتسبها الإنسان من العالم الخارجي، على مدار نموه البيولوجي. كل واحد منا هو مجتمع كامل، عالم صغير.
من بين تلك الكائنات التي تشكل هذا العالم الذي لا تتجاوز حدوده الأنا هناك كما يؤكد أنزو ترامونتانو فيروسات تسمى "فيروسات قهقرية" قادرة على تغيير الجينات التي تصيبها. إنها تترك أثر على جينوم الكائنات التي تصيبها وتغير جناتها للأبد.
مرض الفرد هو الثمن الذي يدفعه من أجل تطور جينوم الإنسانية بأسرها، وهي في سبيلها إلى التكيف مع الظروف المتباينة الصعبة
ومن المدهش أن 8 % من جينوم الإنسان يعود أصله إلى الفيروسات القهقرية، ما معناها أن هناك فيروسات أصابت الإنسان على مدار تاريخه وتركت في جيناته آثارها، وغيرت تركيب جينوم الإنسان وجعله أقوى ومنحته مزيد من المناعة حتى لا تصيبه فيروسات أخرى. الفيروسات جزء مهم من نظام البيئة ولها دور في الحفاظ على اتزانه، ولكنها كذلك تلعب دور في بناء هويتنا بما تتركه مكن أثر لا يمحى على جيناتنا الوراثية.
اقرأ/ي أيضًا: جورج لوميتر.. من هو فيزيائي "البيضة الكونية" الذي احتفت به جوجل؟
يظلّ تعايش الكائنات الحية في النظام البيئي - كما يؤكد جورجو باڤيسريلّو- هشًا، فلو أخذنا في الاعتبار فقط البيئة التي نعيش فيها لوجدنا أنه كلما تدهورت الظروف البيئية كلما أصيبت بعض الكائنات الحية بالأمراض. ولكنّ هذه الهشاشة الباطنة التي تميز كل الكائنات الحية، ومن ضمنها الإنسان، هي ثمن تطورنا؛ هذه الهشاشة خير لأنها ما يفتح لنا باب التطور.
مرض الفرد هو الثمن الذي يدفعه من أجل تطور جينوم الإنسانية بأسرها، وهي في سبيلها إلى التكيف مع الظروف المتباينة الصعبة التي نضطر إلى العيش في كنفها، فالمرض والشفاء لهما نفس الأهمية من أجل استمرارية الحياة.
اقرأ/ي أيضًا:
في الذكرى 150 لميلادها.. تعرف على ماري كوري الحاصلة على نوبل مرتين