يُشدِّد الكاتب التركيّ أورهان باموق في أعماله الروائية، بدءًا من "جودت بك وأبناؤه" وصولًا إلى "غرابة في عقلي" على فكرة أنّ الأمكنة ليست مجرّد صروح إسمنتية، وإنّما – كيفما نظرت إليها – طرف في نزاعٍ أو جُملة نزاعاتٍ ظاهرة أحيانًا، ومخفية أحيانًا أخرى.
لا يبدو باموق معنيًا بمن يتّفق مع فكرته هذه، أو يختلف معها. فإذا كانت لا تصحّ أن تكون فكرةً عامّة وشاملة للأمكنة، على اختلاف المكان والزمان، فإنّها على الأقلّ صالحة لأن تُطبَّق في إسطنبول المسؤولة في رواياته عن المنعطف الأخير في حياة الإنسان الذي يسكُنها.
الأمكنة ليست مجرّد صروح إسمنتية بالنسبة لأورهان باموق، وإنّما طرف في نزاعٍ أو جُملة نزاعاتٍ ظاهرة ومخفية
إسطنبول عند الروائي التركيّ سؤال كبير وشائك، قبل أن تكون بؤرة مركزية تنطلق منها ثمّ تعود إليها العناصر التي يتوسّلها لبناء مادّته السّردية. وفي المادّة نفسها، يُخبر مؤلّف "متحف البراءة" قرّائه بأنّ المدينة التي تتنازعها الجهات والثقافات والأزمنة بهويّاتها المتعدّدة والشائكة، تكمن خصوصيتها في قدرتها على تمزيق الفرد وإجباره كذلك على الوقوف في زمنٍ معيّن واختيار هويّة معيّنة وتبنّي ثقافة محدّدة دون أخرى، بحيث تبدو أقرب إلى حبكة سردية تنفلت خيوطها من يد صاحبها باستمرار، بما يعني أنّها مدينة تنطوي على متاهة ضخمة.
اقرأ/ي أيضًا: أورهان باموق.. تراجيديا إسطنبول
صاحب "الكتاب الأسود" أديب وليس فيلسوف أو عالم اجتماع. أي أنّ معالجته للسؤال الذي يشغلهُ كانت أدبية بحتة، مُكتفيًا بما ينطوي عليه الأدب من فلسفة قد تكون كافية لإيجاد أجوبة ليست وافية بالضرورة، ولكنّها قادرة على إزاحة قدرٍ من الالتباس والغموض عن شكل وصورة المدينة بعيدًا عن النمطية.
ولأنّ سؤال المدينة عنده مرتبط بالأخلاق ارتباطًا وثيقًا، تأخذ مُجمل رواياته بُعدًا أخلاقيًا، كما تأخذ بُعدًا فكريًا، تجسَّدا معًا في الإمكانيات الأخلاقية والفكرية للحيوات التي جاء على ذكرها في العمل. هنا، يُلقي باموق على القارئ مهمّة اكتشاف الأهمّية الأخلاقية للأوضاع والظروف الموصوفة في أعماله، واكتشاف جوانب ممّا يمكن تسميته الحياة الأخلاقية التي تُحاول المدينة احتضانها، تلك الحياة التي لا تتوقّف الفلسفة عن التلميح إليها.
لسنا بصدد مراجعة تجربة من قدّم "اسمي أحمر"، ولكنّنا نُمهِّد للحديث عن أحدث رواياته "ذات الشّعر الأحمر" التي تأخذ من كلّ ما ذكرناه نسبة غير متساوية، إلّا أنّها بدت، رغم ذلك، أغرب رواياته، وإن كانت تتشارك مع ما سبقها عددًا من العناصر، كسؤال المدينة والانشغال بها، مع ضرورة مراعاة اختلاف مكانها في الرواية التي جاءت مُتخفِّفة إلى حدٍّ ما ليس بالقليل من السؤال السابق لصالح أسئلةٍ أخرى لم تكن ملامحها واضحة بما يكفي لأن تُحدَّد.
لنقل إنّ خصوصية رواية "ذات الشّعر الأحمر" (صدرت بالتزامن عن دارَي المدى والشروق، ترجمة جلال فتاح رفعت، 2018)، في أنّها تُحاور الذات حوارًا مُباشرًا، بمعنى أنّ الشخصيات جاءت بوصفها حاملًا للعمل بدلًا عن المدينة. ناهيك عن أنّها لا تنشغل بأي قضايا كُبرى، وإنّما تكتفي بالتركيز على هموم الفرد الصغيرة، والانشغال بأساطير قديمة: ملحمة شاهنامه الفارسية، قصّة رستم وابنه سهراب تحديدًا، برفقة أسطورة أوديب.
تنطلق رواية أورهان باموق من الذات وتنتهي بها. وفي المسافة الفاصلة بين البداية والنهاية، يتبلور سؤال: ماذا لو أنّ الذوات قصصًا؟ بمقدور هذا السؤال/ الفكرة غير الجديدة طبعًا أن تكون أداةً عند مؤلّف "الحياة الجديدة" تمكّنه من فهم المدينة دون أن تشغلهُ إلى درجة الانشغال بها وحدها. لأنّ فهم ماهية الذات وإدراكها أيضًا عبر تجاربها ومن خلال ما تصدّره لها المدينة نفسها من أزمات وصراعات مسؤولة عن تبديل جلد المدينة؛ ينتهي بالوصول إلى فهمٍ وإن بسيط للسؤال الذي يشغل باموق، أي إسطنبول.
ولكنّ الحائز على نوبل للآداب ترك لبطل روايته، جيم، حرّية أنّ يفهم المدينة كيفما يشاء، بحيث يبقى هو حاملًا وحيدًا للعمل تقريبًا. جيم إذًا هو الذات التي تبدأ الرواية وتنتهي بها. تبدأ به صبيًا في جوّ عائليّ مضطّرب بسبب العلاقة المتوتّرة بين والديه، تلك التي جعلت من العائلة تقف على حافّة التفكّك، قبل أن تنهار أخيرًا بعد اعتقال الأب اليساريّ على يد العسكر.
باعتقال الأب، وجد جيم نفسه وحيدًا في مواجهة الحياة، ومُجبرًا أيضًا على العمل عند حفّار آبار حاول أن يختبر معهُ مشاعر الأبوّة وأن يسدّ أو يملئ حاجته لوجود أبّ في حياته. كما أثناء العمل عنده الجنس للمرّة الأولى مع امرأة بعمر أمّه، قبل أن ينتهي به المطاف حاملًا ذنبًا ظنّ لسنوات أنّه قد اقترفه حينما انزلق من يديه "الدلو" المليء بالرمال وسقط على رأس الحفّار الموجود أسفل البئر.
تلك الأحداث هي ما جاء في الفصل الأوّل من الرواية التي وزّع باموق بطلها على ثلاثة فصول أو مراحل زمنية وتجارب معيشية. وليس من المبالغة القول بأنّ ذلك الفصل/ المرحلة هو الأجمل في الرواية، ولعدّة أسباب، أهمّها أنّ الحكاية بدت منفتحة أو حرّة وغير مقيّدة أو مؤطّرة بفكرة أو بقالب مُحدَّد مسبقًا. وهو ما نراه في الفصل الثاني والثالث كذلك من الرواية، حيث الحكاية مقيّدة وموضوعة ضمن قالب أسطورة أوديب وملحمة رستم وابنه سهراب.
تأطير الحكاية بهذا الشكل، أكان مقصودًا أو لا، جعل مصيرها محتوم ونهايته واضحة. ولأنّها محتومة المصير، لم تكن القصّة في الفصل الثاني من الرواية قادرة على تغيير ما هي عليه، ولم يكن بوسعها كذلك ألّا تكون إلّا كما هي، تُحرِّكها وتسيّرها هاتين الحكايتين. هنا، حاول أورهان باموق إشغال القارئ أو صرفه عمّا يدور في ذهنه من توقّعاتٍ بدت واضحة لنهاية الرواية، أو توقّع شكلها على الأقلّ، المرتبط بشكلٍ وثيق بالملحمة الفارسية والأسطورة اليونانية، وذلك من خلال اكتشاف جيم وزوجته أنّها غير قادرة على الإنجاب، أي أنّ ما حدث في قصّة أوديب ورستم، لن يتكرّر.
تكمن خصوصية رواية "ذات الشّعر الأحمر" لأورهان باموق في أنّها تُحاور الذات حوارًا مُباشرًا
الحبكة التي وضعها الكاتب التركيّ بدت كافيةً للتمويه وصرف انتباه القارئ عن الشكل الذي بدا واضحًا لنهاية الرواية، والعودة للاستسلام إلى السّرد الذي سيأخذه إلى حيث تكون توقّعاته أمرًا واقعًا. عندها يتبيّن للقارئ أنّ زواج جيم من امرأة لا تُنجب لم يكن إلّا محض شركٍ نصبه له باموق بحيث يتمكّن في المقابل من التفرّغ لبناء صدمتان، تُمهِّد الأولى لنهاية الرواية التي تنتهي فعليًا عند الصدمة الثانية.
اقرأ/ي أيضًا: أورهان باموق.. من مطبخ الكتابة
يُمكن القول إنّ الصدمة الأولى جاءت مزدوجة: أوّلًا، معرفة جيم بأنّ لديه ابن من المرأة ذات الشّعر الأحمر التي مارس معها الجنس قبل سنوات، حينما كان يعمل حفّارًا للآبار. وثانيًا، معرفة أنّ المرأة كانت عشيقة والده الذي تعرّف عليها أثناء عملهما معًا في تنظيم يساري حال زعيمه دون زواجهما. عند هذا الحد تنتهي الصدمة الأولى التي جاءت بقالب أوديبيّ بحت، وإن غير متكامل. بينما تبدأ الصدمة الثانية لحظة لقاء جيم بابنه وجهًا لوجه.
اقرأ/ي أيضًا: