في مشهد من الديستوبيا المتكلفة، يعلن مسؤولون أوروبيون أن ما يحدث في أوكرانيا هو بداية مرحلة جديدة من التاريخ. إنه كما سيقول مسؤول السياسة الخارجية والأمنية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، تصعيد عسكري ضد دولة ذات سيادة يحدث للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية. لا نعرف ما هو الجديد تمامًا، فالحروب منذ ذلك الحين لم تتوقف، وسيادة الدول لا تنفك تُخترق، وإحصاء الضحايا لا يزال يحتل الحيز الأكبر من عمل الصحافة ومؤسسات حقوق الإنسان. ما الذي تغير إذًا؟ لماذا يتحدث المسؤولون الأوروبيون الذي يتحالفون مع أنظمة استبدادية ويمنحون الشرعية لانقلابات عسكرية ودول وشركات استعمارية ويرسلون أطنانًا من الأسلحة إلى مناطق عديدة، وكأنهم يرون الحرب لأول مرة في حياتهم؟
موتنا سياسي، أما موتهم فإنساني. نحن نموت في حروب في بلادنا، أم هم فيموتون في حروب على بلادهم. موتهم واضح لا استقطاب بشأنه، أما موتنا فمسألة حساسة ومعقدة
سيقترح مقدمو الأخبار ومراسلو القنوات العالمية إجابتهم الخاصة؛ إنها ليست العراق أو أفغانستان، إنها دولة متحضرة وأوروبية، والضحايا الذين يُقتلون، أوروبيون وبعيون زرق. هذه اللغة، التي تم دفنها تحت طبقات هشة من الصواب السياسي طوال عقود في إعلام المينستريم، تظهر فجأة، فجة وعارية ووقحة.
اقرأ/ي أيضًا: أوكرانيا تفتح النقاش
ما الذي تغير؟ سؤال تقترح الأخبار القادمة من الحدود الشرقية للاتحاد الأوروبي إجابة أخرى له. هناك، حيث تتجلى الحدود القومية والإقليمية في صورتها الأكثر وضوحًا، فصلًا بين الأجساد والأعراق والألوان، بين من تبدو حياتهم مهمة، وبين من لا تستحق حياتهم العزاء، حسب وصف جوديث بتلر الشهير. فرغم أن بروكسل وعدت ببر أمان غير مشروط للاوكرانيين، فقد تم إعطاء الأولوية للبيض من أجل الوصول، وتم التضييق على غيرهم على الحدود.
وأما أن المقارنة بين المآسي لا تجوز، فالمقارنة بين الخطابات حولها ليست جائزة وحسب، بل ضرورية وملحة وكاشفة. وليس من الأنانية أن يسأل ملايين اللاجئين العرب والأفارقة، الذين نجوا من موت محقق في طريقهم إلى "بر الأمان" ومات من معارفهم وعائلاتهم، عن المعايير المزدوجة. فخلف هذه المعايير، تراث طويل من التهميش، وبنى عميقة من التمييز والعنصرية.
ما الذي تغير؟ ثمة صياغات عديدة لإجابة واحدة، وهي أن الموت والحرب خارج "الزمن الأوروبي" ليسا ذا شأن. فتاريخ الحروب انتهى مع الحرب العالمية الثانية إلى "ديمقراطية ليبرالية"، وكل ما يدور خارج الزمن الأوروبي، ليس جزءًا من التاريخ. أما موتنا وحروبنا، فحالة استثناء لا نهائية، لا يقول القتل فيها شيئًا عن العالم. موت لا يستدعي أي ديستوبيا، ولا ينطوي على أي نهاية. إنه موت مستمر، عادي، في سوريا والعراق وفلسطين وأفغانستان، تكتسب التراجيديا الأوكرانية أهميتها، بسبب أنها ليست مثله.
موتنا سياسي، أما موتهم فإنساني. نحن نموت في حروب في بلادنا، أم هم فيموتون في حروب على بلادهم. موتهم واضح لا استقطاب بشأنه، ولا يجب أن يكون، أما موتنا فمسألة حساسة ومعقدة، فيها استقطابات وحولها خلافات، ونقاشها غير محبذ. موتنا يمكن أن تُفصل الثقافة والرياضة عنه، أما موتهم فلا. ضحاياهم يقاومون، وضحايانا يدخلون نزاعات مسلحة. أما مقاطعة القتلة عندنا فاستهداف للناس العاديين، ومقاطعة القتلة عندهم استهداف للنظام.
حرية التعبير أهم من مآسينا، ومن معتقداتنا. مآسينا ومقدساتنا هي مجرد موضوع يتدرب من خلاله طلاب الفنون على حرية إبداء الرأي وتحطيم التابهوات. لكن حرية التعبير لا أهمية لها في أوقات حساسة، عندما تتعرض الحياوات التي تهم، للخطر. وعلى هذا النحو، تُستهدف وسائل إعلام، وحسابات على وسائل التواصل الاجتماعي، وتغلق قنوات لأنها على علاقة محتملة مع من يعتدي على الحياة التي تستحق العزاء. يدخل النازيون الجدد إلى البرلمانات الأوروبية باسم حرية التعبير، وتحظر وسائل إعلام لأنها متهمة بأنها جزء من الحرب على هذه الحياة.
بلادنا وأجسادنا حالات استثناء لا نهائية؛ نزه خارج الأزمنة الليبرالية الديمقراطية، فضاءات يمكن للجميع أن يأخذ فيها أوقاتًا مستقطعة من قيم الحرية والحياة
دمرت روسيا دولًا غير أوروبية بشكل كامل. بثت بروبغاندا، وغيرت أنظمة، واحتلت أراضيَ، واخترقت سيادة، لكن الفرق الوحيد، أنها فعلت ذلك خارج الزمن الأوروبي، حيث لا تعني قيم الحرية والحياة وحقوق الإنسان كثيرًا. فبلادنا وأجسادنا حالات استثناء لا نهائية؛ نزه خارج الأزمنة الليبرالية الديمقراطية، فضاءات يمكن للجميع أن يأخذ فيها أوقاتًا مستقطعة من قيم الحرية والحياة.