المقطع الآتي من ترجمة من كتاب "الصورة مرآة السلطة وأقنعتها" للكاتب الفرنسي ريجيس دوبري إلى العربية. نحن في هذه الترجمة مع ثلاثة فصول من مصادر مختلفة للباحث الفرنسي المعروف، يجمعها رابط الصورة وما يفرضه موضوعها من بحث منهجي تكون الميديولوجيا أساسه، و ما يستدعيه تطورها من ثبات و تحول يكون علم الإحاثة (paléontologie) والأنتروبولوجيا (anthropologie) أداتاه، وما توحي به من رموز و إشارات يكون علم النفس شارحها ومفسرها، معتبرين الصورة هي كل ما جادت به يد الإنسان للخروج من مملكة الحيوان نحو الاجتماع البشري. الكتاب سيصدر قريبًا عن منشورات "المتوسط" بتوقيع المترجم المصطفى صباني.
في البدء كان العظم، لا الكلمة.
أكان حقيقة الإنجيل؟ لا، بل هو معطى تاريخي، له أقدمية زمنية وسبق نظري.
إن العظم هو الأرشيف الأصلي. وتُحدَّد أولى الطقوس الجنائزية في أقل من مائة ألف سنة قبل ميلاد المسيح. وبحسب الوضع الحالي لمكتشفاتنا، فإلى منتصف العصر الحجري القديم تعود أولى البقايا العظمية، مجمعة ومكدسة في حفرة محمية (وليست منثورة ومهجورة على البسيطة مع باقي النفايات). وتعتبر المدافن مقوي ذاكرتنا الأول، تصل الحاضر بالماضي وبالمستقبل (ترحل الأجسام المدفونة حاملة معها زاد المسافر). وهذا دليل على أن الإنسان لا يُختزل في مدة حياته الجسدية، بحيث يدرج نفسه بين زمن وقع (زمن الأسلاف والأساطير) وزمن قادم ("إخوتنا البشر الذين ستحيون بعدنا"). إن استعادة غياب واضح في حضور حسي، هي أدنى تعريف للعملية الرمزية، فما هي رموزنا التدشينية؟ إنها جماجم ذات جوانب صقيلة، مشكلة من جير، ومرشوشة بالذهب، ومحاجر محززة بالصلصال. إن الإنسان الذي يدفن موتاه بأن يضع حجرة علامة على مكان الدفن، يشهد على أن الحياة الحيوانية ليست قانونه النهائي. إن هذه المدافن ذات الشواهد المنصوبة تظل مرئية أو لامرئية، عبارة عن حفر- ثكنات صينية وأهرامات مصرية وأضرحة يابانية ومصطبات (mastabas) بلاد الرافدين ومدن الأموات المصنوعة من القرميد في صعيد البيرو.
باشرت العملية الرمزية بداية عملها على جثة السلف، التي تم تحويلها فنيًا إلى مومياء أو هيكل عظمي مذهب ومدفون
اقرأ/ي أيضًا: تأملات في القيامة والمعنى
لقد باشرت العملية الرمزية بداية عملها على جثة السلف، التي تم تحويلها فنيًا إلى مومياء أو هيكل عظمي مذهب ومدفون (صارت فيما بعد نصبًا من الرخام). إن التحنيط أو كيفية استخلاص ذخيرة من تدفق ممتد، هو استخراج جسم جامد من جسم رخو، وشكل صلب وثابت من كيس مليء بأحشاء مائعة، ذلك أن إنقاذ الجسم من التحلل وتطهيره وغمره في الماء ثم تجفيفه بالنطرون (natron) ولفه ودهنه وجعله مُصنَّعا، لن يصير بفعل ذلك رفاتا بل عملا فنيا. وفي غياب التحنيط فإن فصل العظام عن الأحشاء والصلب عن العفن يمكن أن يُعهد به؛ نتيجة ضغط الطبيعة؛ إلى سوء الأحوال الجوية ولكواسر، فبالنسبة للمؤمنين بالنبي زرادشت يعهد للنسور في قمة أبراج الصمت فصل الدائم عن الزائل، والهيكل العظمي عن اللحم، بحيث لن تحظى بالاحتفاظ والتبجيل سوى العظام التي صارت نظيفة إثر ذلك. إن مختلف هذه الممارسات تشهد لدى اللاحم الواقف على القدمين – قبل الأقنعة المشكلة من أوراق الذهب لتوت عنخ أمون وأجاميمنون على نوع "رغبة عنيدة في الديمومة".
إن العظم هو نقطتنا الثابتة، ذلك أن كل حضارة تبدأ من الفضلات. "أنت بطرس وعلى هذه الصخرة...." شهيدًا، سوف تغدو عظمًا، وهذا العظم سيوضع في صندوق، وهذا المدخر للرفات سيجذب حجاجا والذين سيبنون عليه كنيسة، ومدينة بكاملها سوف تكبر بجواره. أ سواء كانت مدينة الفاتكان، مدينة بون أو مدينة تور، فإن أولى التكتلات البشرية للمسيحية قد تم تشييدها بجوار هيكل عظمي. فالانتقال من الجسم إلى الزينة والزخرف، ومن الجمجمة إلى القبر، ومن الأضرحة إلى الحواضر، سيجعل المحصلة جيدة.
يجفف جسم الفرعون ليصير صلبًا كي يحيا ثانية في كنف وثبات حورس أو الشمس المنتصرين على الزمن، في الأبدية الكوني
إن العظم هو الذي سيمتد في الصخر ويرفع أمام الأنظار – على شكل نصب تذكاري، شاهد قبر أو مسلة، أو عبارة عن جندل، هُرَيِّم وتماثيل مواي بجزيرة القيامة - أسلافًا موتدين وقوفًا في الأرض، وعظامًا مشيدة، ذلك أن البحث عن ضامن للخلود انتقل إثر ذلك إلى الصوَّان والصخر الصلب أو الجاف، عبارة عن كتلة أو بلاطة أو دلمان أو منهير.
اقرأ/ي أيضًا: ندب الحسين ومرثية تموز التي لا تموت
بخصوص المدافن الفردية أو الجماعية يُستبعد الخشب والقابل للتعفن أو التراب المدكوك والقابل للتفتت. وعلى القدر نفسه، يجفف جسم الفرعون ليصير صلبًا كي يحيا ثانية في كنف وثبات حورس أو الشمس المنتصرين على الزمن، في الأبدية الكونية. وكذلك ينتصب الحجر الكلسي لأبي الهول بدوره أمام الجيزة. فلقد كانت ذاكرتنا الأولى معمارية وكان فن المعمار نصبًا تذكاريًا.
اقرأ/ي أيضًا: