كتب فاروق عبد القادر مرة إن أنيس منصور يشبه "الحلاق الثرثار الذي يطرقع بالمقص فوق الشعر وحوله ولا يقص أبدًا". والواقع أن لدى منصور ما يبرئ هذه الملاحظة من تهمة التجني، فهو، ومنذ وقت مبكر، قرر أن يتحول إلى صانع "بوشار" (فشار باللهجة المصرية)، يسلي ويزجي الوقت ولكنه لا يسمن ولا يغني من جوع. في كثير من كتبه ومقالاته ليس إلا سوالف مجالس ونوادر مقاهي وشبهات أفكار غائمة، ودوران حول موضوع دون موضوع.. ويصل الأمر أحيانًا إلى منافسة الصحافة الصفراء في الحديث عن خوارق وعجائب، صحون فضائية وضحايا لعنة الفراعنة.. وترهات من هذا القبيل.
في سيرة أنيس منصور ما يثير التعجب. بداية واعدة لشاب طموح نهم للمعرفة، درس الفلسفة، وطاف على مدارس واتجاهات وانتماءات فكرية عديدة، وتتلمذ على أيدي أساتذة كبار مرموقين
في سيرة أنيس منصور (1924ـ 2011) ما يثير التعجب. بداية واعدة لشاب طموح نهم للمعرفة، درس الفلسفة، وطاف على مدارس واتجاهات وانتماءات فكرية عديدة، وتتلمذ على أيدي أساتذة كبار مرموقين، وجالس العقاد واقترب من طه حسين، وزامل أسماء صار لها شأن في الثقافة العربية.. ولكن مشروع الفيلسوف هذا آل في النهاية إلى صحفي تسالي، يستميت في تخفيف الدم ولو اقتضى الأمر تخفيفًا فادحًا للعقل!.
ومع ذلك، مع كل ذلك، فثمة كتاب واحد على الأقل لمنصور لا يزال جديرًا بالقراءة. إنه ذلك المعنون بـ "في صالون العقاد كانت لنا أيام"، (صدر في طبعات عدة متتالية عن دار الشروق). هو كتاب عن العقاد وعن أنيس منصور نفسه، ولكنه كذلك كتاب عن عصر بأكمله، هو ذلك العصر الذي نصفه اليوم بـ "الذهبي"، إذ ازدحم بتيارات فكرية متنوعة، وساده حراك ثقافي خصب، وازدان بأسماء لامعة لا تزال متوهجة حتى وقتنا هذا.
محور الكتاب هو صالون العقاد الذي كان ينعقد يوم الجمعة من كل أسبوع، ولكن منصور ينطلق من هذا المركز مشرقًا ومغربًا، فيروي نتفًا من سيرته الشخصية وسير الكثير من الأعلام ممن لهم علاقة، مباشرة أو غير مباشرة، بالعقاد وبصالونه، مستعرضًا الأفكار والأيديولوجيات والانتماءات المتصارعة.. ما يجعلنا نقف أمام وثيقة تاريخية فكرية ذات قيمة عن زمن يهمنا أن نعرف عنه المزيد.
يظهر العقاد بصورته المعروفة الشائعة: عقل فذ مدقق، وذاكرة فولاذية، وموهبة كبيرة في الكلام المتدفق المترابط الخالي من أي لعثمة أو تردد، وثقة عالية بالنفس، واعتداد كبير بما أنجز.. ولكن ثمة ملامح أخرى ربما تكون أقل شيوعًا: ميل إلى السخرية اللاذعة، حدة في تقييم الأشخاص، تطرف في تبني الأفكار أو رفضها، وضيق صدر بالرأي المخالف..
يكرر منصور مفردة "العاصفة" في وصف العقاد. لقد كان عاصفة كاسحة تهدد الرؤوس الشابة الطرية للمؤلف وزملائه الجامعيين. كانوا يخفون عنه كثيرًا من أفكارهم وانحيازاتهم وموضوعات إيمانهم.. خوفًا من يحطمها أمام عيونهم ويتركهم عرايا بلا عزاء. الشيوعية، الوجودية، جماعة الإخوان.. عبد الرحمن بدوي، لويس عوض، حسن البنا، جان بول سارتر، طه حسين.. كل هؤلاء كانوا ينالون نصيبهم من تهكم العقاد القاسي والجارح..
ولم يكن العقاد بعيدًا عن شخصنة آرائه وتقييماته. اعتاد، مثلًا، مهاجمة الموسيقار محمد عبد الوهاب، بمناسبة وبدونها، ليكتشف المؤلف أن السبب وراء ذلك هو رفض عبد الوهاب تلحين قصيدة له!
في صالونه وعلى مسامع جميع الحضور، قال العقاد مرة: "سألوني أمس إن كانت أم كلثوم لا تزال آنسة. قلت لهم: أنا شخصيًا لا أعرف، ولكن جميع أزواجها يقولون إنها كذلك"!
لم يكن العقاد بعيدًا عن شخصنة آرائه وتقييماته. اعتاد، مثلًا، مهاجمة الموسيقار محمد عبد الوهاب، بمناسبة وبدونها، ليكتشف المؤلف أن السبب وراء ذلك هو رفض عبد الوهاب تلحين قصيدة له!
ولكن الشباب، وما إن تهدأ العاصفة، حتى ينجحوا في استجرار "الأستاذ" إلى الإجابة عن كثير من الأسئلة والشواغل التي كانت تؤرقهم، وكان يفعل ذلك باقتدار فاتن، دقة في المصطلحات وتماسك في المنطق وغزارة في المعلومات.. ما يجعلهم يخرجون من صالونه في حالة من النشوة لم يذوقوا مثلها في مكان آخر..
في الصالون كان العقاد يتكلم وكان الآخرون مجرد مستمعين. يوجهون سؤالًا هنا وتعقيبًا هناك.. وليس أكثر من ذلك. اثنان أو ثلاثة من الحضور فقط هم من يجرؤون على كلام مسهب وإبداء آراء تجعلهم أقرب إلى الأنداد..
وفيم كان الكلام يدور في الصالون؟ حول كل شيء تقريبًا: الفلسفة، علم الجمال، الأدب، السياسة، المرأة، الموسيقا.. فقد كان صاحب الصالون يفاخر بأنه موسوعي، ولا يفوت فرصة لإثبات ذلك..
إضافة إلى العقاد، تظهر شخصيات كثيرة، أبرزها طه حسين، والذي كان العقاد يكن له مشاعر مركبة، فيها مزيج من الاحترام و(غيرة الكار) والسخط. ينقل المؤلف عن العقاد قوله: "يسمونه عميد الأدب. إنه عمى الأدب"!
وقد كان عميد الأدب شخصية مختلفة تمامًا عن "الأستاذ"، أكثر مرونة وأوسع صدرًا وأكثر قابلية للنقاش، وهو ما لخصه عنوان فصل في الكتاب "ولكن طه حسين أراحنا أكثر".
في الكتاب، وفضلًا عن استعراض الأفكار، قصص شخصية مؤثرة عن المرض، والعلاقات النسائية، وانتحار أحد المقربين.. ما يضفي عليه نكهة خاصة محببة.
غير أن كل هذا لا يعني أن الكتاب خال تمامًا من عيوب أنيس منصور، فثمة صفحات كثيرة من الاستطراد، وثمة إقحام متكرر للذات في مواضع لا تناسبها، وثمة، في بعض المواقع، حديث في الظاهر عن العقاد فيما هو في الحقيقة عن أنيس منصور.