في الثمانينات، وفي أكثر من بلد عربي، تصاعدت الدعوة إلى الريف. كانت محاولة متأخرة، يائسة وساذجة، لعكس الهجرة التي أغرقت المدن بطوفان بشري أتى على مائها وهوائها وكامل مساحتها. وكانت كذلك إعلانًا صريحًا عن نهاية حلم "المعجزة الصناعية التنموية" الموعودة، والذي لم يتمخض عن معامل تدور وتدور (حسب كلمات أغنية كانت شهيرة) بل عن تطويق المدن بأحزمة من بيوت الصفيح تسكنها ملايين الأرواح المقهورة الموقوتة على انفجار كبير وشيك.
تحكي رواية "طبيب أرياف" أحوال قرية مصرية في أوائل الثمانينات، من خلال طبيب معيّن حديثًا ليعيد الحياة إلى وحدتها الصحية المغلقة منذ سنوات
هكذا بدا الريف فجأة جنة كاملة المواصفات، وبدت العودة إليه مجرد بدهية تحتاج فقط من يذكّر بها، وهو ما تكفلت به دعاية رسمية وشبه رسمية، كسولة بلا همة ولا خيال، استعادت دون حياء كليشيه "ما أحلاها عيشة الفلاح". وفي أفلام ومسلسلات ونصوص تكررت هذه التيمة: رجل يسافر من المدينة إلى الريف عازمًا على بيع قطعة أرض له هناك، وإذا به يعلق في سحر هذا الفردوس الأرضي، حيث الوفرة في الأكل والشرب والهدوء والحب، وحيث الجميع يعيشون في سعادة وهناء وخلو بال، كأنهم شخوص كرتونية في غابة المرح الأبدية.
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "لحظة تاريخ" لمحمد المنسي قنديل.. الزمن العربي في ثلاثين حكاية
كيف كانت الأرياف حقًا في زمن تلك الدعوة البائسة؟ ثمة الكثير من الدراسات والأرقام والبيانات، وثمة أيضًا روايات.
في رواية "طبيب أرياف" لـ محمد المنسي قنديل، (دار الشروق، ط 2020)، نحن أمام قرية مصرية في أوائل الثمانينات، يصل إليها طبيب معين حديثًا ليعيد الحياة إلى وحدتها الصحية المغلقة منذ سنوات. ولا يطول الوقت بالطبيب القادم من العاصمة (والذي يلعب دور الراوي) حتى يحدد موقفه من المشهد برمته: إنه البؤس القبيح في كل مكان.
وما هي إلا صفحات قليلة من يوميات طبيب الأرياف هذا حتى تقفز يوميات أخرى شهيرة إلى الأذهان: "يوميات نائب في الأرياف" لـ توفيق الحكيم. هنا كما هناك الصورة الكالحة نفسها، الجهل والمرض والفقر وسلطة العادات الحديدية، الثأر، جرائم الشرف، رجال السلطة الذين يفرضون سطوتهم دون أن ينجحوا (أو أن يحاولوا حتى) في فرض القانون.. وكأن شيئًا حقيقيًا جديدًا لم يحدث في تلك الفترة التي تفصل زمن يوميات النائب (الأربعينات) عن زمن يوميات الطبيب (أوائل الثمانينات).. أين هي إذًا شعارات الثورة في الإصلاح الزراعي والقضاء على ثالوث الجهل والمرض والفقر؟!
يقضي الطبيب ليلته الأولى محاصرًا بالفئران وأسراب البعوض، ويجد نفسه في الصباح التالي محاصرًا بطوابير المرضى، أشباح هائمة مصفرة ينخرها المرض، بعيون مسمرة على سماعته، معتقدين أنها مصدر المعجزة الكفيلة بشفائهم. وعندما يذهب، بعد وقت، إلى المدرسة ليجري كشفًا طبيًا على التلاميذ، يكتشف أن جميعهم مصابون بالبلهارسيا.. وهناك يستمع من أحد المدرسين إلى طريقة مكافحة هذا المرض في القرية: يذهب عامل الوحدة الصحية بالدواء إلى الترعة، وبدلًا من رشه على أوراق الأعشاب والحشائش حيث تتجمع بيوض الآفة القاتلة، فإنه يرشه وسط الماء، وما هو إلا زمن قصير حتى تطفو الأسماك الميتة، فيأخذها العامل ويبيعها.
في رواية "طبيب أرياف" يأخذ الطبيب دور المشاهد وحسب، وتقتصر حركته على وصف أدوية لا تجدي لأمراض لا تشفى
يحاول الفلاحون الهرب من قدرهم بين الفترة والأخرى، فيقطعون الصحراء في قوافل تهريب سعيًا لدخول الدولة النفطية المجاورة (ليبيا)، البعض ينجح في الوصول إلى غايته، وكثر يضلون الطريق ويسقطون وسط الرمال متحولين إلى وليمة للضباع.
اقرأ/ي أيضًا: رواية "غرفة رقم 304".. في أن الثورة شأن ورثة متخففين
لا يصادق الطبيب أحدًا من أبناء القرية، ولا يوثق علاقته بأحد. هو مشاهد وحسب، تقتصر حركته على وصف أدوية لا تجدي لأمراض لا تشفى، يتخلل ذلك لمسات قليلة ناجعة، كأن ينقذ شابًا من لدغة عقرب أو عجوزًا من حمى مميتة..
أما هم فكتلة واحدة صماء تتحرك أمامه. حشد يذهب إلى الحقول في الفجر، حشد يتجمع أمام باب الوحدة الصحية، حشد يتسكع في الساحة، حشد صغير في الأتوبيس المسمى "أحلاهم".. لا أحد يتميز بينهم، لا شخصية منهم تظهر على مسرح الأحداث لتعبر عن نفسها وتشرح رؤيتها. ولمَ إذا كانوا مجرد نسخ من نموذج وحيد، يتشاطرون المرض نفسه، ويسكنهم الوجع ذاته، ويراودهم جميعًا حلم واحد؟!
ممرضة الوحدة الصحية، فرح، استثناء من ذلك، فهي تملك صوتًا خاصًا، ورؤية واضحة، ومساحة كافية للحركة. ولكن الحب الذي ينشأ بين الاثنين، الطبيب والممرضة، لا يشكل معادلًا لمشهد البؤس العام، بل على العكس إنه منسوج من الخيوط ذاتها، وهكذا سرعان ما يفضي إلى فاجعة.
مأمور الشرطة يجسد السلطة الغاشمة اللامبالية، ويجسد كذلك نظرة الحكومة إلى هذه الأماكن القصية المطرودة من رحمة المركز. يشرح للطبيب حال هؤلاء الفلاحين قائلًا: إنهم على هذه الحال منذ آلاف السنين، هكذا كانوا وهكذا عاشوا وهكذا سوف يبقون إلى الأبد. والمناسبة الوحيدة التي أبدى فيها اهتمامًا ملحوظًا بالمكان وأهله كانت مسرحية لا بد من تشخيصها (كما قال بنفسه)، وكان الأهالي هم الكومبارس الذين يتوجب عليهم إتقان أدوارهم. لقد اغتيل الرئيس يوم السادس من تشرين الأول/أكتوبر عام 1981، وكان المقرر انتخاب نائبه عبر صناديق الاقتراع لإضفاء لمسة من الشرعية على حاكم الأمر الواقع هذا. وعندما لم يحضر أي من الأهالي إلى مركز الانتخاب، فقد قام المأمور بنفسه ولوحده بملء الصندوق بالبطاقات، وبالطبع كان جميع الذين لم يحضروا موافقين!
المنسي قنديل حكاء ماهر، يملك ناصية الحكاية ويسيرها بإيقاع سريع مضبوط، وهو يعرض الواقع من خلال أحداث صغيرة
الجازية شخصية استثنائية وتكاد أن تكون النقيض للخنوع الفلاحي سيئ الصيت، ووسط هذه الظلال الشاحبة السلبية العاطلة عن الفعل، هي الوحيدة التي تمتلك إرادة ورغبة وتحولهما إلى حركة. هي زعيمة الغجر تتقن الغناء وقص الحكايا مثيرة أشواق الفلاحين ومخيلتهم، تتعرض لاضطهاد المأمور وممارساته العنيفة اللاإنسانية، ولكنها تقف شامخة بعد كل سقوط، تجادل وتتحدى وتفرض شروطها. وعندما تلعب دور الدليل لحملة الشرطة في الصحراء فإنها تصنع واحدة من أكثر ذرى الرواية ألقًا وتشويقًا.
اقرأ/ي أيضًا: 11 عامًا على رحيل فاروق عبد القادر.. للقمر وجهان، وهذا وجهه المضيء
وكيف يصنع المنسي قنديل من كل هذا الشقاء رواية ممتعة؟
إنه حكاء ماهر، يملك ناصية الحكاية ويسيرها بإيقاع سريع مضبوط، وهو يعرض الواقع من خلال أحداث صغيرة متلاحقة، وحواديت ذات حبكات شيقة، ومشاهد مرسومة برشاقة.
وتطرح الرواية سؤالًا: كيف للحديث المعاد ألف ألف مرة أن يكون جذابًا؟
اقرأ/ي أيضًا: