تضعنا "الجائزة العالميّة للرواية - البوكر" في كلّ دورة لها، منذ إعلان لجان تحكيمها عن القائمة الطويلة وحتّى تسمية الرواية الفائزة، إزاء ردود أفعال متباينة ومعارك إعلاميّة صاخبة تصل إلى ذروتها لجهة صحّة اختيار اللجنة للعمل الفائز، وأحقيته في نيل الجائزة، والتهميش الذي يطال دولًا مقابل الاهتمام المتزايد بأخرى. وإذ بنا إزاء حرب باردة تحقّق ما تسعى إليه الجائزة: تكريس حضورها "إعلاميًا" لأطول فترة ممكنة. وتكشّف هذا الأمر على نحوٍ دقيق في النسخة الحالية التي انتهت قبل أيام قليلة بتتويجها لرواية "حرب الكلب الثانيّة" للروائيّ الفلسطيني إبراهيم نصر الله (1954) بالجائزة (50 ألف دولار مع ترجمة الرواية إلى اللغة الإنجليزيّة)، ذلك أنّ القائمة القصيرة لهذه النسخة سُجّلت كـ "سقطة" تاريخيّة للجائزة.
بدت مواقف إبراهيم نصر الله مؤخّرًا تتماشى مع سياسات الدولة الراعيّة للبوكر والممولة لها "الإمارات"
وبالتالي، لجائزة "البوكر" هذا العام نكهة مختلفة، ذلك أنّ فوز نصرالله لم يكن مفاجئًا أو غير متوقّع بعد إطاحة لجنة التحكيم بعدّة منجزات كانت ستضيف جوًّا تنافسيًا إلى الجائزة، على حساب أعمال أخرى تفوقها الأعمال المستبعدة في المستوى لجهة مهارة السرد والتخييل الروائيّ. هكذا، كشف صعود هذه الأعمال الرديئة إمّا عن قلّة خبرة اللجنة في هذا المجال، وبالتالي لجوئها لتتويج رواية نصرالله هذه لتطوي صفحة القائمة القصيرة، مستندةً إلى كونه يعدُّ اليوم واحدًا من كبار الكتّاب العرب وصاحب مقروئيّة واسعة عربيًا، عدا عن أنّه سبق وترشّح إلى الجائزة مرّتين. وإمّا أنّ الأمر وصل، كما رجّح الكثيرون، إلى "مؤامرة" خفيّة دارت خلف الأبواب المغلقة لغرف "البوكر" السريّة للإطاحة بالأعمال التي ستنافس رواية نصرالله، واستبدالها بأخرى تعزّز، لشدّة رداءتها وضعفها، من حظوظه في الفوز. بينما ذهب البعض لاعتبار أنّ فوز نصرالله جاء بما يشبه ردّ دين مؤجّل، وإنصافًا متأخّرًا لمسيرته الأدبيّة "الفذّة". وعلى هذا النحو، تأرجحت الأفكار النقديّة في الأيام السابقة.
اقرأ/ي أيضًا: البوكر.. دعوة إلى المراجعة
نصرالله نفسه شارك في إثارة هذه الأفكار والتحليلات المتضاربة من خلال مواقفه المتناقضة، والتي بدت مؤخّرًا تتماشى مع سياسات الدولة الراعيّة للجائزة والممولة لها "الإمارات"، فبعد أن كانت الرواية، بحسب وجهة نظره، تتصدّى لتوحّش الأنظمة السياسيّة وطريقة عمل أجهزتها الأمنية التي تتوغّل في حياة الفرد العربيّ وخصوصياته، الأمر الذي يقف على النقيض من سياسات هذه الدولة الراعيّة للدكتاتوريات العربيّة والداعمة للثورات المضادّة، أصبحت بعد وصولها إلى قائمة "الجائزة الإمارتيّة" وثقة نصرالله، كما الكثير، بفوزها في هذه النسخة، تتصدّى لحالة الفوضى التي تحدثها التنظيمات الإرهابيّة، التنظيمات نفسها التي تدّعي دولة الإمارات محاربتها.
يُعرف عن إبراهيم نصرالله كتابته للرواية التاريخيّة التي تتجاوز الرواية التقليديّة لجهة البناء المعماري والسردي. ذلك أنّ صاحب "زمن الخيول البيضاء" الشغوف بالتاريخ، جمع بينه وبين والفن ضمن قالب روائي واحد، مكّنه من النبش عميقًا فيه دون أن يبتعد عن واقعه الراهن، لتصير الذاكرة هنا وسيلةً لمواجهة الواقع من جهة، ولإنعاش أمكنة وأحداث طواها التاريخ الرسميّ من جهةٍ أخرى. ولكنّه في روايته المتوّجة "حرب الكلب الثانية" يُغادر لعبته السردية المفضّلة "التاريخ" إلى ما يُعرف بـ "أدب التحذير"، متّجهًا هذه المرّة نحو المستقبل (ما يزيد عن أكثر من مئة عام من الآن). هنا، يُغيّر من قواعد اللعبة، فعدا عن هجرته من زمن إلى آخر، يتخلّى نصرالله عن مواجهة الواقع الراهن لحساب تفسيره من خلال رؤية استشرافيّة كابوسيّة.
هذه الرؤية، مكّنت صاحب "قناديل ملك الجليل" من توسيع الفرجار في رسم ملامح جغرافيا مستقبل فاسد، وصل توحّش الإنسان فيه إلى أقصاه. التوحّش هنا يهدف إلى التحذير من توسّع وتطوّر التوحّش الحالي في وقتنا الراهن في حال استمراره. لذا، حملت نبرة نصرالله هذه المرّة تحذيرًا واضحًا، وربّما نظرة تنبؤية لمستقبل يتقلّص فيه عدد ساعات النهار على نحوٍ مفاجئ. وترتفع معدّلات العنف بشكلٍ مخيف؛ عنف غير معهود يحدث في هذا العالم الموازي بفعل التشابه لا الاختلاف، كما هو شائع في عالمنا.
وهنا يستعيد نصرالله بطريقة مواربة حادثة قابيل وهابيل باعتبارها أوّل جريمة في تاريخ البشرية. هذا العنف، يأتي نتيجة ما يُسمّى بـ "الاستنساخ" الذي ابتكره علماء هذا العالم الفاسد لمواجهة أخطاره. هكذا، يصيرُ لكلّ فرد أكثر من نسخة مكرّرة منه، ليحيل هذا الأمر المدينة إلى مسرح جريمة ينطوي على شخصيّات قلقة ومضطّربة من أمر تكرارها. ولذا، ستبحث هذه الشخصيّات عن نسخها للتخلص منها بعد توسّع خريطة الخراب وتمدّدها جرّاء هذا الأمر الذي أحال الشوارع أمكنةً مهجورة سوى من سيّارات الإسعاف.
في "حرب الكلب الثانية"، يتخلّى إبراهيم نصر الله عن مواجهة الواقع الراهن لأجل تفسيره من خلال رؤية استشرافيّة كابوسيّة
اقرأ/ي أيضًا: هل أقصت "بوكر" الجزائريين؟
في ظلّ كلّ هذا، لا يمكننا تجاهل أنّ نصرالله أعاد تكرار نفسه في الكثير من الأماكن في هذه الرواية، لا سيما فيما يخصُّ المواضيع التي احتشدت بها الرواية على نحو أربك صاحب "طفل الممحاة" شخصيًا، ودفعه إلى الطرح السريع والمعالجة الخاطفة لتجاوز الأمر.
أخيرًا، فوز نصر الله بالجائزة يبدو مستحقًّا في ظلّ غياب أعمال منافسة في القائمة القصيرة، لكن استعادتنا للإطاحة بالأعمال المنافسة، تفتح الباب أمام تأويلات وتساؤلات عدّة، توصلنا في النهاية إلى "مؤامرة" حُبكت لتتويجه.
اقرأ/ي أيضًا: