17-ديسمبر-2016

تزداد الأبنية التجارية في بيروت على حساب التراث المدني فيها (جوزيف عبد/أ.ف.ب)

تحط أزمة الأبنية القديمة في بيروت كالصاعقة. يبدو أن الملف الذي استجد البحث فيه، بعد قرار البلدية بإخلاء نحو 32 مبنى في حي طريق الجديدة، يفتح بابًا واسعًا حول ما "يلفق" للمدينة وناسها. إذ يقول مطلعون إن تصنيف البلدية للأبنية على أنها "مهددة بالانهيار"، هو محاولة استباقية منها لـ"عملية تدمير لتراث المدينة وتحويله مساحة لمشاريع تجارية وسكنية تصب كلها في جيوب المستنفعين من التجار والمقاولين".

أزمة الأبنية القديمة في بيروت تشكل نقاشًا حاميًا اليوم أمام المجتمع المدني

ومع تحول 11 مبنى في حي الروم إلى مبانٍ تجارية، وازدياد عدد المباني المهجورة في منطقة الباشورة، تتجه بيروت لتكون مكانًا يخسر "أصوله" الأولى، وارتباطه بتاريخه، إذ يؤكد مهندسون معماريون أن معظم هذه الأبنية يمكن "تأهيلها وتحويلها إلى مساكن لائقة مع الحفاظ على هويتها وتاريخها"، فيما تعمل البلدية التي "دعمت سياسيًا في وجه لائحة مستقلة"، وفق مصدر مطلع، تعمل على "توفير المناخات المناسبة لرجال الأعمال لاستثمار وتحويل بيروت إلى تجمع تجاري من ناطحات سحاب وأبنية تخلو من أي هوية للمدينة".

وكانت دراسة ميدانية نشرت عن "استديو أشغال عامة"، حول السكن والعمران في بيروت، أكدت أن "الإيجار هو الوسيلة شبه الوحيدة للسكن في بيروت لفئات اجتماعية واسعة"، مشيرة إلى أن "التغييرات الطارئة على أحياء بيروت، التي تحدثها عمليات طرد السكان لمصلحة المُستثمرين، يغذيها قانون الإيجارات الجديد، بما يعزز هشاشة السكن في المدينة".

اقرأ/ي أيضًا: "عشوائيات بيروت"... وجه المدينة الخفي

وكانت قضية مبنى العيتاني، فتحت النقاش مباشرة عن أهم قضية مدنية في العاصمة اللبنانية. إذ شكل إخلاء المبنى في حي المصيطبة، في مطلع الشهر الحالي، نافذة لتسليط الضوء على الأبنية الأخرى التي تطلب البلدية إخلاءها بحجة "خللها العمراني وقدم حجارتها"، وطُرحت نقطة حساسة، بما يخص الغش في البناء، للتصويب على ضرورة تفعيل الرقابة ومحاسبة المهندس المسؤول. قبل مبنى العيتاني بعام واحد، أُخلي مُجمع "السيد" في المنطقة نفسها في حي اللجى الشعبي، لأنه كان مهدّدًا بالسقوط أيضًا، وهو مُجمّع مؤلف من ثلاثة مبانٍ، تم إخلاؤه لأنه بناء قديم ولم تتم "متابعته وترميمه". ولا توجد إلى الآن أي إحصاءات حول المباني المُهدّدة بالإخلاء لدى نقابة المهندسين أو الجهات المعنية. كذلك تغيب الأرقام عن المباني المؤجرة القديمة التي تحتاج إلى تأهيل.

وكان "استديو أشغال عامة"، على إثر إطلاقه الدراسة نظم معرضًا وجلسة نقاش حول قضية السكن والتغيير العمراني في أحياء بيروت، شارك فيها المحامي نزار صاغية من "المفكرة القانونية"، ونادين بكداش وعبير سقسوق، وقدم منصور عزيز عرضًا للموقع الإلكتروني الجاري العمل عليه لوضع خارطة لعمليات الإخلاء في المدينة.

دراسة ميدانية لـ"استديو أشغال عامة" تفضح عمليات طرد للسكان لمصلحة المستثمرين في بيروت 

تضّمن المعرض، خرائط حول ستة أحياء في بيروت، جرت دراستها ميدانيًا وخلصت إلى تقديم رواية عن الحي بلسان ساكنيه. خلصت هذه الدراسة الميدانية إلى أن الإيجار هو الوسيلة شبه الوحيدة للسكن في بيروت، واكتشفت كيف أن هناك جهات دينية واجتماعية فاعلة تُسيطر على مجموعة من العقارات التي تملكها لتخلق نوعًا من سوق العقارات الخاصة بها، كحي البدوي مثلًا. كذلك لفتت إلى النهج الجديد في البناء القائم على خلق شقق صغيرة لمُضاعفة الأرباح، وبالتالي لخلق هشاشة في حق السكن.

أبرز الاستنتاجات التي خلصت إليها هذه الدراسة هو أن التغييرات الطارئة على أحياء بيروت التاريخية هي نفسها في كل الأحياء، ولفتت إلى ضغط الإخلاء الموجود في كل حي. الأهم في هذه الدراسة الميدانية هو ربطها المعطيات والأرقام المتعلقة بالواقع السكني للأحياء بقانون الإيجارات الجديد وأبرزت كيف يُساهم الأخير في تعزيز هشاشة السكن في المدينة التي تشهد تحولًا جارفًا، يكون لمصلحة رأس المال والمُستثمرين. تخلص الدراسة إلى أن العلاقة الشائكة بين المُستأجرين القُدامى ومالكي الأبنية المؤجرة القديمة، أدّت إلى الامتناع عن ترميم المباني، مُشيرة إلى أن الكثير من المباني التاريخية يسكنها مُستأجرون قدامى، "إلا أن العديدين منهم مهددون بالإخلاء بحسب التغييرات في السوق العقارية". وتُضيف الدراسة في هذا الصدد أن الأحياء القديمة في المصيطبة تواجه خطر الإخلاء والهدم الكامل كزاروب عبلا وزاروب الباشا وزاروب الفرن.

وتعدّ منطقة الباشورة من أكثر أحياء المدينة، التي لا تزال تحافظ على طابعها العمراني القديم. نحو 67% من مبانيها، هي مبان قديمة، أي أن أكثر من 198 مبنى تُصنف ضمن "النسيج العمراني القديم". تُحذّر الدراسة من خطر تحول المنطقة إلى "سوليدير ثانية" وتلفت إلى وجود أكثر من 29 مبنى مهجورًا.

وينتقد فاعلون في المجتمع المدني، قرارات البلدية القاضية بـ"تفريغ" الأبنية القديمة وتحويلها إلى "أمر واقع" للاستثمار والمتاجرة بها، في مناقصات وأوراق تثبت أن المدينة تتحول إلى "بازار" لطمس هويتها العمرانية، وقتل صورة السكن فيها، وفرض قواعد جديدة. فهل ستكون هذه الدراسة مفتاحًا جديًا، لتشكيل "مجموعة ضغط" مدنية لفتح ملف الإيجارات القديمة، ووقف بعض المناقصات الجارية لشراء الأبنية التي قيل إنها "مخلاة"؟ ومن سينفذ هذه "الأجندة" الإصلاحية بيروتيًا؟.

اقرأ/ي أيضًا:

اقتصاد لبنان.. ما ذنب اللجوء!؟

عماد بزّي.. من زواريب بيروت المنسية وعنها