ألترا صوت – فريق التحرير
صدرت حديثًا عن "منشورات نابو" في العاصمة العراقية بغداد، النسخة العربية من كتاب "إنكار الموت"، لعالم النفس والأنثروبولوجي الأمريكي إرنست بيكر (1924 – 1974)، ترجمة سارة أزهر وأحمد عزيز سامي. وفيه، يقدِّم بيكر تحليلًا عميقًا لما يدفع الإنسان للهرب من فكرة الموت وإنكاره، والطُرق التي يستند إليها في محاولاته المستمرة والدؤوبة لنسيان مصيره المحتوم والانصراف عنه.
أثار كتاب عالم النفس الأمريكي جدلًا واسعًا في أوساط علم النفس عند صدوره عام 1973، بين مؤيدٍ ومعارضٍ لمضمونه الذي يقوم على نظرية تقول إن العامل الأساس في تحريك وتشكيل وصياغة سلوك الإنسان، هو خوفه الموت. وأن "البطولة" و"المجد" ضمن هذا السياق، مجرد مفهومين أوجدهما البشر بهدف مواجهة الموت وإنكاره.
وبحسب مارك مانسون، مؤلف "فن اللامبالاة"، يُعتبر كتاب "إنكار الموت" واحدًا من أكبر: "الأعمال الفكرية أثرًا خلال القرن العشرين، لأنه أحدث هزة في مجالي علم النفس والأنثروبولوجيا إضافةً إلى تقديمه أطروحاتٍ فسلفية عميقة لا تزال تتمتع بأثرها الواسع إلى اليوم".
ننشر هنا مقطعًا من الكتاب.
أول ما علينا القيام به بشأن البطولة هو تعرية جوهرها والكشف عما يمنح البطولات البشرية طبيعتها ودافعها الخاص. هنا نقدِّم مباشرةً واحدة من أعظم عمليات إعادة اكتشاف الفكر الحديث: أنه من بين كل الأشياء التي تحرك الإنسان، فإن أحد الدوافع الرئيسة هو ذعر الموت.
وجَّهت كل الأديان التاريخية دفتها نحو المشكلة نفسها، تلك المتمثلة في كيفية تكبد نهاية الحياة
بعد داروين، شقَّت مشكلة الموت طريقها إلى الواجهة بعدِّها مشكلةً تطورية، ورأى كثيرٌ من المفكرين على الفور أنها مشكلةٌ نفسية عظمى بالنسبة إلى الإنسان. كما عرفوا بسرعة كبيرة ما كانت تدور حوله البطولة الحقيقية، كما كتب شالر في مطلع القرن. البطولة هي أولًا وقبل كل شيء ردُّ فعلٍ على ذعر الموت. أكثر ما نُعجب به هو الشجاعة في مواجهة الموت؛ نقدِّم أسمى درجات التمجيد لهذه البسالة؛ إنها تؤثر بعمقٍ في قلوبنا لأننا نشك في مدى شجاعتنا إن واجهنا الموت أنفسنا.
اقرأ/ي أيضًا: "سياسة الإذلال".. في تفكيك العار وأدواره
عندما نرى رجلًا يقف بشجاعة في مواجهة فنائه، فإننا نشهد أعظم انتصار يمكننا تخيله، وهكذا كان البطل هو مركز الفخر والإشادة الإنسانية ربما منذ بداية التطور البشري على وجه التحديد. ولكن حتى قبل ذلك، كان أسلافنا البدائيون يمتثلون لمن يملكون القوة، والشجاعة، ويتجاهلون الجبناء. لقد رفع الإنسان من شأن الشجاعة الحيوانية إلى حد العبادة.
بدأ باحثو الأنثروبولوجيا والتاريخ، في القرن التاسع عشر، بتشكيل صورة للبطل في العصور البدائية والقديمة، فقد كان البطل هو من يمكن أن يذهب إلى عالم الأرواح أو عالم الموتى، ويعود منه على قيد الحياة.
كان لهذا البطل ذريِّة في الطوائف الغامضة في شرق البحر الأبيض المتوسط، طوائف قائمة على الموت والنشور، وكان البطل المقدس في هذه الطوائف عائدٌ من عالم الأموات. كما نعلم اليوم عبر بحثنا في الأساطير والطقوس القديمة، كانت المسيحية نفسها منافسًا للطوائف الغامضة تلك، منافسًا قويًا فاز لعدِّة أسباب، منها: تقديم مُعالجٍ يتمتع بقدراتٍ خارقة أهمها البعث من الموت.
إن البهجة العظيمة لعيد الفصح هو النداء الجذِل "المسيح قد قام!"، وهو صدى للبهجة نفسها التي صاح بها مناصرو الديانات الغامضة في مراسم الانتصار على الموت الخاصة بهم. كانت هذه الديانات، كما يقول جي. ستانلي هال على نحو ملائم للغاية، محاولة للوصول إلى "التطهر" ضد أكبر الشرور: الموت والخوف منه.
الأفراد الذين خاضوا تجارب مبكرة سيئة قد أصبحوا أكثر تركيزًا على القلق من الموت
وجَّهت كل الأديان التاريخية دفتها نحو المشكلة نفسها، تلك المتمثلة في كيفية تكبد نهاية الحياة. لجأت أديان مثل الهندوسية والبوذية إلى حيلة ذكية مفادها التظاهر بعدم الرغبة في الولادة من جديد، وهو نوع من السحر المعاكس: الادعاء بعدم الرغبة في أكثر ما ترغب به في أعماقك. عندما استولت الفلسفة على الدين، استحوذت أيضًا على مشكلة الديانات المركزية، وهكذا أصبح الموت "مصدر وحي الفلسفة" الحقيقي، منذ بداية ظهورها في اليونان، وصولًا إلى هايدغر والوجودية الحديثة.
اقرأ/ي أيضًا: "نقد الذات".. مساءلة التجربة الإيرانية ومحاكمتها
لدينا بالفعل مجلدات من الأعمال والأفكار حول الموضوع، في الدين والفلسفة وحتى العلم بفضل دارون. لكن المشكلة الحقيقية تكمن في كيفية فهمها؛ فتراكُم البحوث والآراء حول موضوع ذعر الموت ضخمٌ جدًا بحيث يصعب التعامل معه وتلخيصه بأي طريقة بسيطة. لقد أدى الاهتمام المتجدد بالموت وحده، عبر العقود القليلة الماضية، إلى تكديس كمية هائلة من الأعمال الأدبية، وتلك الأعمال لا تسير باتجاهٍ واحد.
حجة "العقل السَّليم"
هناك أشخاص يتمتعون "بعقلٍ سليم" يؤكدون أن الخوف من الموت ليس فطريًا في الإنسان، وأننا لا نولد معه. يتفق عدد متزايد من الدِّراسات الدَّقيقة بشكلٍ جيدٍ إلى حدٍّ ما، والتي تدور حول كيفية تطور الخوف الفعلي من الموت لدى الطفل، على أن الطفل لا يملك أي معرفة بالموت حتى سن الثالثة إلى الخامسة تقريبًا، وكيف يعي الموت؟
إنها فكرة مجرَّدة للغاية بعيدة جدًا عن خبرته، فهو يعيش في عالمٍ مليء بالأشياء الحية النشطة التي تستجيب له وتسليه وتغذيه. إنه لا يدرك معنى أن تأفل الحياة إلى الأبد، ولا يمكن له الافتراض أين تذهب تلك الحياة بعد أن تختفي. لا يدرك إلا تدريجيًا وجود شيءٍ يسمى الموت يأخذ بعض الناس إلى الأبد؛ شيئًا فشيئًا يُسلِّم، على مضض شديد، بأن الموت سيأخذ الكل عاجلًا أم آجلًا، لكن هذا الإدراك التدريجي لحتمية الموت يمكن أن يستغرق حتى السنة التاسعة أو العاشرة من عمره.
إن لم يكن لدى الطفل أي إدراك بفكرة مجردة مثل النفي المطلق، فإن لديه على الرغم من ذلك مخاوفه الخاصة. إنه يعتمد بشكل مطلق على الأم ويعاني الوحدة عندما تغيب عنه والإحباط عندما يُحرم من مسراته معها، والغضب عند الجوع والانزعاج، وما إلى ذلك. إذا تُرك لنفسه، فسينهار عالمه وسيشعر الكائن داخله بهذا الانهيار بشكل ما؛ وهذا ما نسميه فقدان الموضوع؟ أليس هذا القلق إذن خوفًا فطريًا عضويًا من الفناء؟
ومرة أخرى، هناك كثير ممن ينظرون إلى هذه المسألة على أنها مسألة نسبية للغاية. إنهم يعتقدون أنه إذا أدَّت الأم دورها بدفءٍ وعلى أكمل وجه، فإن مخاوف الطفل وذنوبه ستتطور بطريقة منتظمة، وسيكون قادرًا على وضعها بكل حزم تحت سيطرة شخصيته النامية.
البطولة هي أولًا وقبل كل شيء ردُّ فعلٍ على ذعر الموت. أكثر ما نُعجب به هو الشجاعة في مواجهة الموت
الطفل الذي مرَّ بتجارب أمومية سليمة سينمِّي إحساسًا أساسيًا بالأمان، ولن يكون عرضة للمخاوف المرضية من فقدان الدعم أو الفناء أو ما شابه ذلك، وعندما يبلغ السن المناسب لفهم الموت بعقلانية، في عامه التاسع أو العاشر، سيتقبله بوصفه جزءًا من نظرته للعالم، بيد أن الفكرة لن تُفسد موقفه المتمثل في وثوقه بذاته أمام الحياة. يَجزِمُ الطبيب النفسي راينغولد أن القلق من الفناء ليس جزءًا من تجربة الطفل الطبيعية ولكنه تولد عبر تجارب سيئة مع أمٍّ حارمة.
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "كيف تعمل الدكتاتوريات؟".. رسوخها وآليات عملها
تضع هذه النظرية عبء القلق بالكامل على من رعى الطفل وليس على طبيعته. يرى طبيب نفسي آخر – في سياقٍ أقل تطرفًا – أن الخوف من الموت يتفاقم بشكل كبير في أثناء تجارب الطفل مع والديه؛ وعبر إنكارهما العدائي لدوافع حياته، وبشكل أعم، في أثناء معاداة المجتمع لحرية الإنسان وتوسعه الذاتي.
كما سنرى لاحقًا، فإن هذا الرأي يحظى بشعبية كبيرة اليوم في ظل الحركة واسعة الانتشار نحو العيش غير المكبوت، والرغبة في حرية جديدة للدوافع البيولوجية الطبيعية، وسلوكٍ جديد من الفخر والاستمتاع بالجسد، والتحرر من الخجل والشعور بالذنب وكره الذات. من هذا المنظور، يبدو ذعر الموت هو من صنيعة المجتمع، وفي الوقت نفسه يستعمله هذا المجتمع ضد الأفراد لإبقائهم في حالة خضوع؛ يقول الطبيب النفسي مولوني إنها "آلية ثقافية"، ويصفها ماركوس بـ "الأيديولوجية".
أما نورمان أو. براون فقد ذهب إلى أبعد من ذلك، حيث يقول في كتاب مؤثر إلى حد كبير سنناقشه قليلًا فيما بعد، إنه يمكن أن يولد الطفل وينمو في "براءة ثانية" من دون خوفٍ من الموت؛ لأن هذه البراءة لن تنكر الحيوية الطبيعية وستترك الطفل منفتحًا تمامًا على الحياة الجسدية.
انطلاقًا من هذا المنظور، من السهل أن نلاحظ أن الأفراد الذين خاضوا تجارب مبكرة سيئة قد أصبحوا أكثر تركيزًا على القلق من الموت؛ وإذا أصبحوا فلاسفة، عن طريق الصدفة، فمن المحتمل أن يحولوا الفكرة إلى مقولةٍ مركزيةٍ تتمحور حولها أفكارهم – كما فعل شوبنهاور، الذي كره والدته واستمر في الإعلان أن الموت هو "مصدر وحي الفلسفة".
من بين كل الأشياء التي تحرك الإنسان، فإن أحد الدوافع الرئيسة هو ذعر الموت.
إن كنت تملك بنية شخصية "متجهمة" أو تجارب مأساوية بشكل خاص، فإنك مقيدٌ بمصيرك، وهو أن تصبح متشائمًا. قال لي أحد علماء النفس ذات مرة إن فكرة ذعر الموت ما هي إلا استيراد الوجوديين واللاهوتيين البروتستانت الذين تركت تجاربهم الأوربية ندوبها عليهم أو حملوا الوزن الزائد للتراث الكالفيني واللوثري الذي يدور حول إنكار الحياة.
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "المرأة في العصور الوسطى الإسلامية".. تهافت الصورة النمطية للمرأة المسلمة
حتى عالم النفس المتميز غاردنر مورفي يميل نوعًا ما إلى هذه المدرسة ويحثنا على دراسة الشخص الذي يظهر ذعرًا من الموت ويضع القلق في مركز أفكاره؛ ويتساءل مورفي لماذا لا يمكن عدُّ الحياة في الحبِّ والفرح حقيقية وأساسية.
اقرأ/ي أيضًا:
كتاب "آيات الله والديمقراطية في العراق".. هل بدأ عصر التنوير الإسلامي؟!