وصلت أعمال الكاتب الألمانيّ إريك ماريا ريمارك (1889 - 1970) إلى اللغة العربية بداية سبعينيات القرن الماضي تقريبًا. البداية كانت مع روايته الأولى "كلّ شيء هادئ على الجبهة الغربية" باعتبارها روايته الأكثر شهرة، عدا أن أنّها من مهّد له الطريق أيضًا لدخول المشهد الأدبيّ الألمانيّ بقوّة، كما كانت المسؤولة عمّا لحق به من متاعب بدأت بصعود الحركة النازية، وبلغت ذروتها بوصولها إلى السلطة.
خلال الأيام القليلة الماضية، أعادت داران عربيتان إصدار رواية إريك ماريا ريمارك، وبعناوين مختلفة: "لا جديد على الجبهة الغربية" (ترجمة ليندا حسين، أثر) و"كلّ شيء هادئ على الجبهة الغربية" (ترجمة محمد عبد العزيز، كتوبيا) لتعود الرواية إلى الواجهة مُجدّدًا بعد نحو 50 عامًا تقريبًا على صدورها باللغة العربية للمرّة الأولى بعنوان "كلّ شيء هادئ في الميدان الغربيّ".
لم يستطع ريمارك أن يفكّر بشيء سوى الحرب فقط. إنّها الفكرة الوحيدة التي تسلّطت عليه
صدرت الطبعة الأولى من الرواية سنة 1928، ومع بدايات 1929، بلغ عدد نسخها المباعة أكثر من 3 ملايين نسخة، لتصنع وخلال فترة وجيزة جدًا شهرة واسعة لريمارك الذي كان قد عبّر فيها عن نظرته إلى الحرب التي لم تكن، رغم انتهائها، قد انتهت بالنسبة إليه. يقول س. ر. مارتين في كتابه "في تجربة الكتابة" عن ريمارك: "حتّى المقرّبون منه لم يعرفوا تأثير الحرب على نفسيته. وحتّى بعد مرور سنوات عديدة على انتهائها، لم يستطع ريمارك أن يفكّر بشيء سوى الحرب فقط. إنّها الفكرة الوحيدة التي تسلّطت عليه".
اقرأ/ي أيضًا: هانس فالادا.. في سعار المورفين
اختيار مؤلّف "ليلة لشبونة" للحرب لتكون موضوعًا لروايته، سبّب له الكثير من المتاعب لجهة نشرها، حيث رفضت عدد من دور النشر الألمانية نشرها، ومنها دار "س. فيشر" التي برّرت رفضها بالسؤال التالي: من يرغب الآن في قراءة رواية عن الحرب؟ وحينما حاول ريمارك نشر الرواية في المجلّة التي كان يعمل بها، نصحه رئيس التحرير بعد معرفته بأنّ الحرب موضوعها، بتمزيقها وللسبب نفسه: من يريد اليوم قراءة رواية حربية؟ حينها، كتب ريمارك لوالده يقول: "الظاهر أنّ مغامرتي الأدبية الأولى في الأدب لن ترى النور".
ولكنّ ما حدث فيما بعد عكس ذلك تمامًا، إذ وقعت الرواية بيد أحد أعضاء لجنة قراءة تابعة لإحدى دور النشر التي كان ريمارك قد أرسل إليها نسخة منها. وبعد صولات وجولات عديدة بين اللجنة، تقرّر نشر الرواية بشكل متسلسل في جريدة تصدر عن الدار، قبل أن تبدأ بعد وقتٍ قصير بطباعة مئة ألف نسخة من الرواية.
أنجزت رواية "كلّ شيء هادئ على الجبهة الغربية" ما أراده منها كاتبها، أي أن تكون أشبه برمية حجر كبيرة في بحيرة الأدب الراكدة. ولكنّها، في المقابل، وضعت حياته في خطر بعد حملة شرسة أطلقها النازيون ضدّه، تبتعها رسائل تهديد بالقتل من الحزب النازي، الأمر الذي دفعه لمغادرة ألمانيا باتّجاه سويسرا. ومن هناك، سيقرأ بعد فترة قصيرة خبر وصول أدولف هتلر إلى منصب مستشار ألمانيا، وتعيينه باول غوبلز الذي قاد الحملة ضدّ ريمارك، وزيرًا للدعاية السياسية، وهو المنصب الذي مكّنه من منع نشر وتداول رواية الكاتب الألمانيّ، كما أشرف بنفسه أيضًا على حرق النسخ الموجودة في المكتبات، وتولّى مهمّة سحب الجنسية الألمانية منه.
يقول بطل رواية ريمارك: "فهمنا أنّ ما يهمّ ليس العقل بل طلاء الحذاء، وليس الذكاء بل النظام، وليست الحرية بل التدريب العسكري"
كتب صاحب "ثلاثة رفاق" رواية تكذّب وجود أمل لمن تورّط في الحرب، مُعتبرًا أنّ الأخيرة تجعل المتورّطين بها مرضى، وبموجب هذا المرض، يتضاءل وجودهم ككائنات بشرية. وسخر في الرواية نفسها من الحرب كوسيلة لبناء الإمبراطوريات، ساعيًا إلى تقويض الأفكار السائدة حولها، وساخرًا كذلك من عبارات شكّلت ممرًّا لملايين الجنود نحو الجبهات المشتعلة، كالواجب أو الدولة العظمى وغيرها. "عرفنا أنّ زرًّا لامعًا في البدلة هو أكثر قيمة من أربع مجلّدات من فلسفة شوبنهاور. وفهمنا أنّ ما يهمّ ليس العقل بل طلاء الحذاء، وليس الذكاء بل النظام، وليست الحرية بل التدريب العسكري" يقول بطل الرواية.
اقرأ/ي أيضًا: باتريك زوسكيند.. قصة مشّاء
بينما يقول في مشهدٍ آخر مُخاطبًا جنديًا من جنود العدو تمكّن من قتله على الجبهة: "لكنّي أرى الآن وللمرّة الأولى أنّك إنسان مثلي. كنت أفكّر من قبل في قنبلتك اليدوية، وفي حربتك وفي بندقيتك. أمّا الآن، فلست أرى إلّا زوجتك، ووجهك، وزمالتك (...) لم لا يقال لنا أنّكم بؤساء مثلنا، وأنّ أمهاتكم يتلهّفن لوعة وجزعًا من أمهاتنا؟ وأنّنا جميعًا نشترك في الخوف والموت؟ (...) خذ عشرين سنة من حياتي أيها الزميل، وقم. بل خذ أكثر من هذه المدّة فلست أدري بعد الآن كيف أنتفع بهذه الحياة".
اقرأ/ي أيضًا: