ننشر هنا فصلًا مترجمًا من كتاب "فكرة إسرائيل: تاريخ السلطة والمعرفة" للمؤرخ إيلان بابيه، الذي صدرت ترجمته العربية عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" عام 2015.
يقدم بابيه سردًا تاريخيًا للنظرة الإسرائيلية للتطهير العرقي في كتابات المؤرخين، ويأتي هذا على خلفية اللحظة الدموية التي يواصل فيها جيش الاحتلال الإسرائيلي عدوانه على قطاع غزة، وسفك دماء الفلسطينيين بلا حساب أو هدف سوى التطهير العرقي.
في كتابٍ لمورِس بعنوان "نظرة تاريخيّة على الحرب العربية الإسرائيلية الأول"، نشر عام 2008، نراه وبطريقة أكثر فظاظة وبشكلٍ يغرقُ في التبسيطية ويقع في التطرّف يصف التطهير العرقي الذي جرى عام 1948 بأنّه مجرّد دفاع عن النفس وخيار "بين التّدمير أو الوقوع ضحيّةً للتدمير". ويصرّ فوق ذلك على أنّ حرب 1948 تعدّ من بين تلك "الحالات التاريخيّة التي يكون التطهير العرقيّ فيها مسوّغًا". ففي هذا الكتاب تصبح حرب 1948 دفاعًا عن النفس ضدّ هجوم جهاديّ على الدولة اليهوديّة ويكأنّه هجومٌ من تنظيم القاعدة، وأنّ الدّولة اضطرّت للدفاع عن نفسها بأي وسيلة ممكنة. والواقع أنّ المزاج العام بعد العام 2000 بات يميل إلى مقاربة المقاومة الفلسطينية عام 1948 مع ما تقوم به المنظمات الإرهابية من أفعال في الحاضر.
هذه النظرة مهما تعدّدت أشكالها وصورها تمثّل بكل وضوح ذلك التوجّه النيو-صهيونيّ في الأعمال التي تتناول العام 1948 في الأكاديميا الإسرائيلية والكتب الحديثة التي أعادت معالجة هذا الموضوع. فبعض هذه الكتب الجديدة تقدّم دفاعًا أخلاقيًّا عن الحرب بمقاربةٍ دينيّة. ولعلّ مقدّمة كتابٍ "حرب استقلال إسرائيل، 1948 – 1949"، وهو عملٌ ضخم يجمع في مجلّدين عددًا كبيرًا من المقالات والدراسات بتحرير ألون كاديش، تعطينا مثالًا واضحًا على ذلك. يقوم كاديش، وهو رئيس سابق لقسم التاريخ في الجامعة العبرية، بإضفاء صبغة دينيّة إلهيّة على المساعي اليهوديّة في حرب 1948، واصفًا نتيجة الحرب تارّة بأنّها ظفر "العدل" وقهر "الظلم" في معركة حالت دون وقوع هولوكوست جديد، ومشيرًا تارة أخرى إلى العام 1948 بأنه الحلقة الأخيرة التي تمّ بها "خلاص الأرض ورجوع اليهود إليها وتجدّد استقلالهم عليها". هذه الأنطولوجيا التي حرّرها كاديش وما اشتملت عليه من عشرات المقالات التي تركّز على الجوانب العسكريّة في الحرب لتمثّل بجلاء ذلك المزج بين الخطاب الصهيونيّ الدينيّ وعملية إعادة تشكيل الرواية التاريخيّة بالاعتماد على السجلّات الأرشيفية والمناهج الوضعيّة، وهذه هي عين المنهجيّة النيو-صهيونيّة. بل قد يذهب أحدهم للقول بأنّ استدعاء عقيدة الخلاص المسيحانيّ والحديث عن التهديد الوجوديّ وسيلتان يعزى إليهما النجاحُ في تهويد فلسطين ومسخ وجهها العربيّ، ليس في المناطق التي مُنحتها إسرائيلُ بموجب قرار التقسيم عام 1947 وحسب بل في ما يتعدّى ذلك، وأنّ ذلك قد بات الآن أمرًا واقعًا معترفًا مفهومًا من الناحية الأخلاقيّة باعتباره الهدف الأساسيّ الذي دار في خلد القيادة الصهيونيّة عام 1948.
هذان الجانبان (الوعد الإلهي ومواجهة التهديد الوجودي) كانا قد شكّلا فيما سبق موضوعةً فرعيّة ضمنيّة في "التاريخ القديم" حول العام 1948 والذي دوّن قبل ظهور أعمال المؤرخين الجدد، والفارق هو أنّ التاريخ القديم كما أشرنا من قبل قد كان أكثر تحفّظًا في التطرّق إلى قضايا تتعلق بالتهجير أو المجازر. والفارق الآخر بين مؤرخي الصهيونيّة الكلاسيكيّة ومؤرخي النيو-صهيونيّة (والمؤرخين الجدد) هو أنّ معظمهم لم يكونوا مؤرخين متخصّصين وإنما كانوا صحفيين ومثقّفين ينتمون إلى النخبة السياسيّة. ومع هذا فقد طالعَنا أحدُ أبرز من عملوا على السرديّة النيو-صهيونية مؤخّرًا بكتاب كاملٍ ليبرّأ ساحة التأريخ الصهيونيّ المبكّر لعام 1948 ويثبت وجه الصحّة والعلميّة فيه.
أمّا مؤرخو النيو-صهيونيّة المختصون بعام 1948 فكانوا في الغالب طلّاب دراسات عليا أو باحثين غِرارَ حديثي عهدٍ في مجتمع المؤرخين المتخصّصين، ولكنّهم مع هذا قادرون على الوصول إلى الوثائق التي تمّ الكشف عنها من أراشيف جيش الدفاع الإسرائيلي عام 1998، بل وحازوا كذلك على الثّقة التي تمكّنهم من الوصول إلى موادّ محظورة وسريّة للغاية لا يمكن بحال أن يطّلعوا عليها لو كانوا باحثين لهم توجّه لانتقاد الصهيونيّة. والمثير كذلك هو أنّ وزارة الدفاع الإسرائيليّة تتولّى نشر معظم أعمال هؤلاء الباحثين، وهي أعمال تكتب باللغة العبريّة. أمّا محصول جهودهم البحثيّة فقد كان ضخمًا يشي ببروز خطاب جديد وموضوعات لم تطرق من قبل، إذ كان هنالك انتقال بشكل عامّ من الحديث عن الأبعاد البشريّة في الحرب إلى إبعادها العسكريّة، حيث جرى إعادة تقييم شاملةٍ من جميع الزوايا الممكنة لحملات عسكريّة ظُنَّ أنّها أشبعت بحثًا من ذي قبل. كما راجت موضوعات حديثة كموضوع المجتمع المدنيّ اليهوديّ في زمن الحرب، وهكذا تحوّلت الأبحاث عن النّظر في أمر الفلسطينيّ الضحيّة وشرعت في تناول التماسك البطوليّ للمجتمع اليهوديّ عام 1948.
هذا وقد صدرت أعمالٌ أخرى تضع اللوم على الفلسطينيين للحال الذي آلت إليه أمورهم، وذلك تبعًا لمقولات باحثين بارزين ناؤوا بأنفسهم عن "التاريخ الجديد" في كتب كتلك التي ألّفها رئيس معهد هرتزل للأبحاث والدراسات الصهيونية في جامعة حيفا، يوآف غلبر. ولكن في حين كان موضوع "لوم الفلسطينيين" فرعيًّا وضمنيًّا في تلك الأعمال، فإنّها باتت في الأعمال الجديدة أكثر وضوحًا ومباشرة، وذلك كما في كتابات تامر غورِن والتي ركّز فيها بشكل خاصّ على مسؤوليّة الفلسطينيين عن نزوحهم من حيفا. برزت كذلك موضوعات أخرى من قبيل العمل التطوعيّ اليهودي في الخارج ومصير العاملين في هذا المجال، الدّور الذي قامت به المستوطنات، المسائل اللوجستية وقضايا البنية التحتيّة، السياسة والجيش، وتكاليف الحروب وغيرها من موضوعات لا تخلو من جدّة. بيدَ أنّ بعض هذه الجهود البحثيّة الجديدة تعودُ إلى موضوعات أكثر ارتباطًا بالسردية الصهيونية الكلاسيكية، كإعادة النظر في حرب 1948 وتقديمها كحرب تحرير ضد بريطانيا، وهي أعمال تعيد التأكيد كذلك على الادّعاء الصهيوني حول "طهارة السلاح" ولكن هذه المرّة بالنسبة إلى القوات البريطانيّة وليس الفلسطينيين، وذلك بخلاف مؤرخي ما بعد الصهيونية الذين كانوا يعملون على دحض هذه الأسطورة.
وتظهر العديد من هذه الأعمال سابقة الذكر في أنطولوجيا كاديش التي تحدثنا عنها أيضًا، والتي يدلّ عنوانها "حرب استقلال إسرائيل، 1948-1949" على النزعة التأريخية النيو-صهيونيّة التي أسقطت المصطلح المحايد "حرب 1948" الذي جرى المؤرخون الجدد على استخدامه، واصطلحوا عوضًا عنه على "حرب الاستقلال" أو "حرب التحرير"، من دون أن يسألوا على أيّة حال عن ذلك الاستقلال عمّن أو ذلك التحرير من قبضة من. وعند مناقشة هذه القضيّة تحضرني دومًا ذكريات مع الفلسطينيين في حيفا مسقط رأسي، حيث كنّا نلتقي ونسير عبر حديقة في وسط حيفا تدعى حديقة التحرير، والتي كانت تعني في الواقع أمرًا من قبيل تحرير حيفا من سكّانها الأصليين على يد المستوطنين الذين حلّوا مكانهم.
والحقيقة أنّ كتاب ألون كاديش يجمع في مجلّديه أفكارًا أساسيّة من التأريخ النيو-صهيوني وإستراتيجياته. ومن هذا مثلًا، خاصّة فيما يتعلق بعمليات التهجير، بيانُ أنّ ذلك أمرٌ شائع بل حتميّ في الحروب ويجري التعامل معها بعد ذلك من وجهة تكاد تكون تقنيّة. وهذا ما نجده بأوضح تجليّاته في مقالة كتبها أستاذ الجغرافيا في جامعة حيفا أرنون غولان (والتي نشرت عام 2003 في مجلة شؤون إسرائيلية وفي أنطولوجيا بعنوان "فلسطينيو إسرائيل: أقليّة عربية في دولة يهوديّة" بعنوان "الإصلاح اليهودي للمدن العربية سابقًا ودمجها في النظام الحضري الإسرائيلي (1948-1950)". ومع أنّ غولان قد كان في السابق من أوائل من حاولوا الردّ على أعمال المؤرخين الجدد فإنّا نجده في هذه المقالة يتراجع عن إنكاره التطهير العرقيّ ويقول:
"إنّ السياسة التي جرى تطبيقها فيما يتعلق بالقرى العربية المحتلة هي التدمير الكامل وطرد من تبقّى من سكّانها. وكانت التحرّكات تطبّق دائماً وفقاً للتفسير الصارم لخطة دالِتْ... كما برزت ظواهر التخريب المتعمّد والانتقام".
فالحقائق معروضة على طاولة البحث ليعاد سردها بواقعيّة ومن دون أيّ تحرّج أخلاقيّ. ويمضي غولان قائلًا إنّ كلا الطرفين قد مارسا سياسة الطرد نفسها، وأنّ ذلك أمرٌ متوقّع في الحرب، وهذا ادّعاء غريبٌ لا أساس له أبدًا ولكنّه مع ذلك يبدو جذّابًا. ويجدر التذكير هنا بأنّ هذه ليست المحاولة الأولى لغولان في خلق حالة من المواساة بين الضحايا، إذ سبق أن قدّم بين يدي ذلك في أطروحته لنيل درجة الدكتوراة عام 1993. ففي هذه النسخة من تاريخ عام 1948 نرى أنّ الحرب قد أدّت إلى وجود لاجئين من العرب واليهود، ولذلك فإنّ الأمر برمّته يدور حول ضحيتين متساويتين. وبخلاف ما يذهب إليه معظم الكتّاب من المساواة بين الضحايا من الطرفين ولكن بالإشارة إلى اللاجئين اليهود من الدول العربية، فإنّ غولان يشير بالتحديد في هذا السياق إلى بضعة مئات من اليهود الذين كانوا يقطنون مستوطناتٍ جرى تفكيكها فيما صار يعرف الآن بالضفة الغربية وإلى سكّان الحيّ اليهودي في البلدة القديمة في القدس، وهي مناطق ضُمّت إلى الأردن بموافقة يهوديّة مسبقة. وفي حين يبدي غولان انزعاجه من غياب سلطة تضمنُ الفعالية والتنسيق في عمليات توزيع غنائم الحرب بعدما قامت إسرائيل بشكل منهجي من نهب الممتلكات الفلسطينية وبيوتهم وأراضيهم وحساباتهم البنكية، إلا أنّه يشير في الوقت ذاته إلى أنّ طرد الفلسطينيين قد كان السبيل الوحيد لاستيعاب المهاجرين اليهود بعد حرب 1948. كما تظهر منهجية غولان هذه في إضفائه الشرعيّة على سياسة إسرائيل في منع اللاجئين من العودة.
ولا غرابة إذن في أنّ العديد من فصول كتاب "حرب استقلال إسرائيل" تعيد رسم الخطوط العريضة الأساسيّة للأحداث التي تناولها المؤرخون الجدد من قبل، ولكنّ النتائج مختلفةٌ كلّ الاختلاف. فمثلًا، يؤكّد داني هداري في الفصل المخصّص له من الكتاب (كما يفعل المؤرخون الجدد) على الأثر الكبير لخطة دالت في تسريع عمليات التطهير العرقي في فلسطين ونجده يفعل ذلك بمصطلحات أقلّ حدّة وألطف وقعًا (كإشارته إلى الجزء من الخطة التي تفصّل العمليات الخاصّة بتدمير القرى الفلسطينية بعبارة "المهمّة العسكريّة المهمّة") ولكن من دون أيّ محاولة للتستّر على أعمال لم يكن للكتّاب الصهاينة الكلاسيكيين إلا أن يحجموا عن مناقشتها. ثمّ إنّه لا يكتفي بالإشارة إلى أنّ القوات اليهوديّة قلّما احترمت ذلك البند في الخطّة والذي يقضي بإتاحة الفرصة لبعض القرى الفلسطينية بالاستسلام، بل ونجده يثني كذلك على قوّات الجيش لما أبدوه من تفسير حرفيّ صارم للخطة، مرجعًا ذلك إلى ديدن الجيش الإسرائيلي في أخذ "زمام المبادرة" دومًا. كما يتناول قصة قرية أم الزينات، تلك القرية التي تلقّت وعدًا بالحماية ولكنّها مع ذلك دمّرت وطرد أهلها منها رغم عرضهم بالاستسلام. ويتبع هداري المنطق نفسه عند مناقشة سياسة إطلاق النار على سكّان القرى الذين حاولوا العودة إلى قراهم بعد طردهم منها، إذ يعالج هذه الجزئية وغيرها باعتبارها مسألة عسكريّة بحتة. أضف إلى هذا إشادته الرفيعة بجهود جيش الدفاع الإسرائيلي في طرد العرب من منطقة الجليل بين أيار وتشرين الأول عام 1948. والمثير للفضول هنا هو أنّ الصهاينة الجدد يحجمون تمامًا عن استخدام مصطلح "التطهير العرقي" ولكنّهم لا يجدون غضاضة في استخدام مصطلح "نزع الصفة العربية" (De-Arabisation) في هذا السياق. أمّا في الخطاب الصهيوني الكلاسيكي فلم يكن يرد أي ذكر للعرب أصلًا، ولم يكن من الممكن التفكير بمثل هذا المصطلح إطلاقًا، إذ كانت الأرض في نظر الصهيونية الكلاسيكية "خالية" من الناس، وكانت المهمّة تتعلق باستعمارها وحسب، ولم يحدث إلا قليلًا أن جرت الإشارة إلى أنّ عملية الاستعمار فيها احتاجت إلى إزالة السكّان المحليين منها.
سأذكر هنا مجموعة قليلة وحسب من الأمثلة العديدة التي من شأنها بيان النزعة النيو-صهيونيّة لإعادة السّرد الفجّة لأحداث كان من شأنها لو نوقشت فيما مضى أن تثير عدم ارتياح على الأقلّ، أو كان سيسقط ذكرها كليّة بكلّ بساطة. فلنأخذ مثلًا الكاتب أوري مِلشتاين الذي يورد ذكرًا مفصّلًا لعمليات النهب الواسعة للبيوت الفلسطينية، لا لينتقد هذه الأفعال، ولكن ليتحدّث عن غياب التنظيم بين أعضاء الهاغانا وفشل التنسيق فيما بينهم. كما يمكن أن نجد في أنطولوجيا كاديش سابقة الذكر فصلين آخرين يقدّمان أمثلة عن المعالجة النيو-صهيونيّة للسياسات العدوانية المنهجية التي اتبعتها القوات الصهيونية في المدن الفلسطينيّة أو التي اختلط اليهود فيها مع الفلسطينيين لطرد السكّان الفلسطينيين منها بشكلٍ مقصودٍ ومدبّر. فالفصل الذي كتبه يوآف بيليغ حول العمليات التي جرت في نيسان 1948 في يافا يجمع بين النتيجة التي توصّل إليها المؤرخون الجدد بأنّ المواجهات العسكرية في المدينة وما حصل من طرد خمسين ألفًا من سكانها الفلسطينيين كان أمرًا يمكن تفاديه، ولكنّ قادة الهاغانا لم يكونوا راغبين في بقاء الفلسطينيين فيها. وهنالك صورة أخرى ترشح من الفصل المخصّص لموشيه أرنيوالد والذي يصف فيه عملية طرد السكان الفلسطينيين من القدس الغربية في الفترة نفسها. فالذي يجمع بين الكاتبين هو أنّهما لا يجدان بأسًا في هذه السياسات، ولا يظهران أيّة إشارة كانت على تحفّظ أخلاقيّ كما هو الأمر مثلًا عند المؤرخين الجدد. ففي الصفحات الأخيرة من مقالة بيليغ مثلًا نجد وصفًا لعملية قامت بها الأرغون "لتطهير مواقع العدوّ" من خلال "القصف المتواصل لحيّ العجمي وغيره من الأحياء العربيّة وسط المدينة بهدف تدمير معنويّات السكان وخلق حالة من الفوضى والذعر لإرغامهم على الفرار منها". وكذا الهدف كما يقول أرنوالد فيما قام به اليهود للسيطرة على القدس الغربيّة، إذا كانت الخطّة ترمي إلى "التسبّب في هروب السكان من الأحياء العربيّة خارج البلدة القديمة، وحصر السكّان العرب فيها". كما يشير إلى أنّه هذه الهجمات قد جعلت "كثافة السكان في البلدة القديمة في أيار 1948 لا تطاق"، إذ ارتفع عدد السكان فيها ضعفين أو ثلاثة. وبالرغم من "فداحة" الظروف المعيشية وانعدام النظافة في البلدة القديمة، وبالرغم من "تفشّي حمّى التيفوس في الثامن من أيار ونشوب أعمال شغب بسبب نقص الطعام والطحين" إلا أنّ سكّان البلدة القديمة لم يغادروها لأنّهم في رأي الكاتب كانوا يشعرون بالأمان. والحقيقة أنّ السكان والمهاجرين في البلدة القديمة قد ظلّوا فيها لأنّهم لم يطردوا منها ولأنّهم كانوا تحت حماية قوّات الجيش الأردنيّ التي أحبطت كل المحاولات الإسرائيلية لاحتلالها. أمّا في مناطق أخرى فقد كان الوضع مختلفًا تمامًا، إذ جرى فعليًا طرد السكّان العرب جميعًا من القدس الغربيّة نتيجة هذه العمليّات.
العديد من الكتّاب الذين ساهموا في أنطولوجيا كاديش أو معظمهم بالأحرى يركّزون إمّا على العمليات العسكرية والجوانب التي كان لها الأثر الفصل على مسار الحرب، أو على القضايا الأبرز في الجدل الدائر حول تاريخ عام 1948. ولو أخذنا الموضوع الذي طرقه أهارون كلاين عن سجناء الحرب عام 1948 لوجدنا أنّه موضوع ثانويّ مقارنة بالموضوعات الأخرى، ولكن لا ضيرَ مع ذلك في أن نمضي بعض الوقت مع هذا الفصل، لاسيّما أنّه يجلّي لنا العديد السّمات التي اشترك فيها مؤرخو النيو-صهيونية. لقد كان بوسع كلاين الوصول إلى وثائق جيش الدفاع الإسرائيلي الخاصّة بأسرى الحرب، وكان ما كشفه يؤكّد إلى حدٍّ كبير ما توصّل إليه سلمان أبو ستة في دراسته التي اعتمدت بشكل حصريّ على شهادات شفهيّة وتقارير من أرشيف منظمة الصليب الأحمر (وهي مصادر ترد كذلك من بين مصادر كلاين). ويذكر أبو ستّة أن سجناء الحرب قد كانوا في أغلبيتهم من مواطني الدولة الجديدة بموجب القانون الدوليّ وأنّهم تعرّضوا للسجن والتطهير العرقيّ ذلك أنّهم اقتلعوا من قراهم بشكل دائم مع السماح لهم بالبقاء ضمن حدود إسرائيل، كما أنّ حوالي خمسة آلاف منهم قد تعرّضوا وبشكلٍ منهجيّ للاعتداءات المتواصلة والعمالة القسريّة.
لا يعترض كلاين على السياسة التي انتهجتها إسرائيل مع أسرى الحرب عام 1948 ويرى أنّه لم يكن بالإمكان تفادي ما جرى، ولكنّه يشير بشكل عابر إلى أنّ ضباط المخابرات كانوا مخوّلين باتّخاذ قرارات ميدانيّة بإعدام فلسطينيين يقعون تحت الأسر خلال العمليات العسكريّة، وفي هذا ما يؤكّد على شهادات شفهيّة يتناقلها الفلسطينيون عن إعدامات ميدانيّة كانت تقع في قرى وأحياء محتلّة في فلسطين. ومع أنّه ينقل بعض الحالات الوحشية والإعدامات الميدانية التي كانت تقع في معسكرات اعتقال أسرى الحرب إلا أنّه يصرّ على أنّها حوادث منفصلة عارضة ويعزوها إلى مشاكل لوجستية من شأنها أن تقع بالضرورة حين يجري سجن آلاف الناس. كما يذكر كلاين في هذا الفصل المعنون "حرّاس المعسكر" (شومري همحانوت) أنّ معظم الحرّاس قد كانوا أعضاء في عصابتي شتيرن والأرغون، ولعلّه يريد التنويه إلى أنّه في حال حدوث أي تجاوزات تنضوي على عنفٍ مبالغٍ فيه فإنّ مصدره أولئك المتشدّدين من "اليمين المتطرّف". ووفقًا لكلاين فقد كان أيّ شخص يزيد عمره عن عشر سنوات ويثير الشبهة عرضةً للاعتقال كسجين حرب. وقد بدا أنّ كلاين رغم تعبيره غير المباشر عن هواجس تتعلق بأعمار أسرى الحرب من الأطفال قد أشار إليهم بلفظ الأطفال حينًا وحينًا آخر بالجنود وذلك في محاولة منه ربّما لسدّ الباب أمام أي نقد محتمل. وبالتالي نجدُ أنفسنا أمام تفسير عجيب نوعًا ما، حيث يظهر أنّ الأطفال القصّر كانوا لا يخضعون للاعتقال إلا بعد أن تتعرّض أمهاتهم للطّرد. وهذا أمرٌ صحيح لا شكّ فيه، ذلك أنّ القوّات الصهيونية كانت تفصل جميع الأطفال الذكور والمراهقين الذين تجاوزوا سنّ العاشرة عن أمهاتهم قبل عملية الطّرد، ولكنّ الهدف من ذكر هذا عند كلاين هو الإشارة إلى أنّ سجن الصغار كان إجراءً إنسانيًّا يهدف إلى عدم ترك أولئك الأطفال وحدهم بلا مرعى. أمّا فيما يتعلق بفكرة العمالة القسريّة بأكملها نرى كلاين يشيد بالجيش الإسرائيلي أيّما إشادة لما قام به من استغلال فعّال ومفيد للسجناء الذين وقعوا تحت قبضتهم. لقد كان معظم الأسرى من المراهقين والشباب في مطلع العشرينات من العمر وليسوا جنودًا، وكانوا مع ذلك يجبرون على الأعمال الشاقّة. وسأضع بين يدي القارئ فقرة تتحدث عن إنشاء معسكرات العمل القسريّ، وذلك وفق وثائق من جيش الدفاع الإسرائيلي ما كان لها أن تتوفّر لأحد المفكّرين الناقدين، لتوضّح لنا المنهجية النيو-صهيونية في التأريخ والتي تشتمل على توليفة من مقاربةٍ فجّة واقعيّة تقنيّة جامدة تتعارض بشدّة مع حالة الامتعاض الأخلاقيّ التي كانت لتنشأ لدى مفكّري ما بعد الصهيونيّة لو تناولوا هكذا معلومات حتّى لو لم يعبّروا عنها بشكل مباشر في كتبهم التاريخيّة:
"لقد كان الآلاف من أسرى الحرب من العرب يمتلكون إمكانات مهنيّة عظيمة، وكان سوق العمل الإسرائيلي يعاني نقصًا بالغًا في العمالة، وكان النظام العسكريّ بحاجة ماسّة إلى قواعد [عسكريّة] جديدة ويلزمه بناء العديد من المعسكرات. وقد كان هنالك إدراك بأنّ توظيف أسرى الحرب سيحلّ جزءًا من المشكلة وسيغطّي جانبًا من احتياجات جيش الدفاع الإسرائيلي وهذا ما أدّى إلى اتخاذ قرار بإنشاء معسكرين مخصّصين لعمالة الأسرى، الأول في الصرفند والثاني في تل لتفنسكي [ما يعرف اليوم بمستشفى تل هشومير]. وقد انتهى بناء المعسكرين في أيلول 1948. كما افتتح معسكر عمالة آخر لعدّة أشهر في منطقة أم خالد قرب نتانيا... لقد كان بناء معسكرات العمالة خطوةً جبّارة في استغلال القوّة العاملة من أسرى الحرب الذين كانت أعدادهم في تزايد مستمرّ".
وأخيرًا يشيد كلاين بالجيش تارّة أخرى وهذه المرّة لنجاحه في ضبط الأمور مع الإشارة إلى أنّ الوضع قد كان فوق طاقتهم، فيقول: "بالرغم من حداثة عهد النظام العسكري داخل جيش الدفاع الإسرائيلي وعدم استعداده للتعامل مع هذه الأوضاع... إلا أنّه نجح في تنظيم نفسه بطريقة معقولة وتمكّن من التوصّل إلى حلَ لمسألة السجناء". وفي نهاية تشرين الأول أو مطلع تشرين الثاني من عام 1948 أضحت عمالة أسرى الحرب أمرًا منهجيًّا تدعمه إجراءات وأنظمة ونماذج وتقارير. ولكنّا لا نجد بتاتًا فيما يرويه كلاين أية إشارة من قريب أو بعيد للفظائع التي تكشفها لنا مثلًا الفقرة التالية من شهادةٍ شخصيّة من أحد الناجين الفلسطينيين دُوّنت مباشرة بعد الحرب:
"تم تحميلنا في شاحنات انتظار... ونُقلنا إلى أم خالد تحت الحراسة... ومن هناك إلى العمل القسري. كان علينا أن نقطع الصخور ونحملها طوال النهار، وكان طعامنا اليومي يقتصر على حبة بطاطا واحدة في الصباح ونصف سمكة مقددة في المساء. وكانوا يضربون أي واحد لا يطيع الأوامر. بعد 15 يومًا، نقلوا 150 رجلًا إلى معسكر آخر، وكنت واحدًا منهم. وكانت صدمة بالنسبة إليّ أن أترك شقيقَي خلفي. عندما تركنا الآخرين، طُلب منا الوقوف صفًا واحدًا وخلع ملابسنا. كان ذلك مذلًا لنا فرفضنا وأُطلق الرصاص علينا. وقُرئت أسماؤنا وكان يتعين علينا الرد بالقول "سيدي" وإلاّ... نُقلنا إلى معسكر آخر في قرية إجليل حيث أُجبرنا فورًا على ممارسة العمل القسري الذي كان يقضي بنقل الحجارة من المنازل العربية المهدمة، وبقينا يومين من دون طعام، ثم أعطونا كسرة من الخبز الجاف".
كما يغفل كلاين الحديث عن ظروف المعسكر اللهم إلا ما قاله عمّا كانوا يحصلون عليه من طعام جيّد وأجرٍ مقابل عملهم. ويستشهد كلاين في معرض إثبات هذا الادّعاء الأخير بإحدى وثائق جيش الدفاع الإسرائيلي فيها خلاصة ما قاله الجيش لوفد من الصليب الأحمر، وذلك من دون الإشارة لوثائق من الصليب الأحمر نفسه تعرض شهاداتٍ قدّمها السجناء وتعطي صورة مغايرةً تمامًا لما ورد في تقرير الجيش. غيرَ أنّ كلاين على أية حال لا يعرض تجربة المعسكر على أنّها تجربة إيجابية لأولئك الذين عايشوها، وذلك بخلاف محرّر الكتاب الذي يعلّق في مقدّمته على مقالة كلاين قائلًا إن "بعضهم [أي أسرى الحرب الفلسطينيين] قد كانوا سعداء بلا شكّ إذ كانوا يعملون في أماكن كانوا يعملون فيها من قبل لصالح الإنجليز".
لقد بات النموذج النيو-صهيوني للتأريخ الآن جزءًا أيضًا من النظام التعليمي في إسرائيل. ففي أواخر التسعينات مثلًا ثار نقاشٌ حول كتابين دراسيّين يشيران من بعيدٍ إلى عمليات طرد الفلسطينيين عام 1948 واختلفَ في أمرِ إدراجه في المناهج الدراسيّة، وبعد جدالات حادّة في اللجنة الخاصّة بالتعليم في الكنيست صدرَ القرار بمنع تدريسها. لكنّ الأمرَ تغيّر بين عام 1999 والعام 2000، فما كان محرّمًا في تلك السنة لم يعد كذلك في التي بعدها، وذلك لأنّ المنهاج الرسميّ لوزارة التربية والتعليم صار يشتمل على كتاب يدرّس الطلاب أنّ الجيش الإسرائيلي بدأ بعد شهر ونصف من اندلاع الحرب بطرد الفلسطينيين وتدمير قراهم وذلك كي لا يتمكّنوا من العودة إليها. وبما أن 15 أيار يُعدّ التاريخ الرسمي لقيام الحرب، وهو اليوم الذي دخلت فيه الجيوش العربية فلسطين (علمًا أنّ تطبيق خطة دالِتْ لا يعدّ جزءًا من الحرب)، فإنّ مضيّ شهر ونصف على اندلاع الحرب سيوافق على الأغلب مطلع تموز. وحتى لو وضعنا جانبًا ذلك التفسير العجيب الذي يشير إلى أنّ عمليات الطرد قد بدأت لأنّ السكان توقّفوا عن الرحيل طوعًا، فإنه ليس ثمة معطيات تاريخية تدعم هذه الرواية؛ بل إنّ جميع الأدلّة الموجودة حاليًّا في أرشيف الجيش الإسرائيلي تدلّل على أنّ عملياتِ الطرد المنهجية التي تسببت بتهجير أكثر من ثلاثة أرباع اللاجئين كانت قد حدثت فعلًا بحلول تمّوز. ولكنّ المدهش أكثر هو أنّ عمليات الطّرد هذه قد أضحت أمرًا معترفًا به بلا مواربة في المناهج المدرسيّة.
ويخلص العالم التربويّ دانيال بار طال بعد دراسة شاملة للكتب المدرسية الخاصّة بالتاريخ والجغرافيا والتربية المدنية والتي تتطرق إلى حرب 1948 من المنهاج المدرسيّ إلى أنّ وجهة النظر الصهيونية فيما يتعلق بالنزاع هي النّظرة السائدة وأنّ تلك الكتب تنقل صورًا تتعامل مع اليهود كضحايا وصورًا أُخرى نمطية سلبية عن العرب. كما يدعم كتّاب آخرون تلك النتيجة التي ترى أنّ للصهيونية القول الفصلَ فيما يتعلق بالتعليم المتعلق بحرب 1948.
ولعل أفضل سبيل لبيان التحوّل الذي طرأ على الخطاب الصهيوني هو عرض اقتباسين مختلفين لأنيتا شابيرا في سياق حديثها عن طرد الفلسطينيين. ففي مقال لها نشر في مجلة نيو ريببلك عام 1999 كتبت تقول:
"لقد أدى الذعر العربي إلى الهجرة، كما أدّى إلى انهيار مؤسسات المجتمع الفلسطيني. وكان كلّما ازداد حجم الهجرة وتصاعد، ازداد معه إغراء الفكرة في ذهن القادة الإسرائيليين والقادة العسكريين، وليس ذلك لأنّ الحركة الصهيونيّة كانت تخطّط لطرد الفلسطينيين من البداية، ولكن لأنّ ذلك الخيار البعيد (بالرغم من رغبة البعض الشديدة به) قد حاز قبولًا في سياق سلوك كلا الطرفين خلال الحرب".
وبعد انقضاء خمس سنواتٍ على وصف شابيرا لعملية تهجير الفلسطينيين على أنّها "خيار بعيد" لم تقلّب القيادة السياسية والعسكرية في إسرائيل النّظر فيه إلا في وقت متأخر من ربيع عام 1948 (حتّى لو كان لدى البعض "رغبة شديدة" بذلك) صارت فجأة تتحدّث عن التهجير بصورة واقعيّة مباشرة من دون الإشارة إلى أنّ ما حدث كان رهنًا بسلوك الطرف العربيّ في ذلك الحين. فعندما كتبت شابيرا سيرة يغال ألون أشارت إلى أنّه "قد كان أشدّ المناصرين لعملية نقل الفلسطينيين حتّى أنّه قام بعمليات طرد واسعة النطاق لهم في حرب الاستقلال" وأنّه "لم يبد أي تردّد في طرد العرب بأعداد كبيرة". كما تقتبس عن ألون برضًا وتأييد ما قاله في محاضرة عامّة له عام 1950 عن أنّ "المبرّر الأزليّ" (أي الحقّ الأزليّ للشعب اليهودي بالعيش على أرضهم من دون "أغراب") هو مصدر شرعيّة طرد الفلسطينيين بالجملة من أرضهم. ثم تضيف إلى ذلك أن ألون "قد بذل ما بوسعه لا ليستعمر أرض إسرائيل وحسب بل وليضمن كذلك جلاء السكان عنها".
كما يمكن بيان الاحتضان الرسميّ أو السائد لفكرة طرد الفلسطينيين كحدثٍ إيجابيّ وكعملية لا بدّ منها للحصول على الحقوق اليهوديّة من خلال الإشارة إلى أنّ "الحرم الافتراضيّ" للمركز الإسرائيلي للتكنولوجيا التربويّة، وهو منظمة غير حكومية لها شراكة مع وزارة التربية والتعليم وغيرها من الهيئات، يشتمل في موقعه الإلكترونيّ العديد من المراجع حول عمليات طرد الفلسطينيين عام 1948.
وإليكم مثالًا أخر عن حقائق كانت من قبلُ تردّ وتنكر وصارت الآن يؤخذ بها وتقبل. كان المؤرخون الجدد في أواخر التسعينات قد نجحوا في دحض وصف حرب عام 1948 بأنها حرب داود اليهودي ضدّ جالوت العربيّ، تلك الأسطورة التي لعبت دورًا مهمًّا في خلق العداء ضد العرب والفلسطينيين وبناء شعورٍ إسرائيليّ بالقوّة التي لا تقهر التي تكاد تكون مجاوزةً للطبيعة. ومع مطلع القرن الحادي والعشرين، قام جيش الدفاع الإسرائيلي بنشر وثيقتين تظهران أنّ القوّات الإسرائيلية قد كانت تتمتع بقوّة عسكريّة بما يعادل ضعفي ما لدى الطرف المقابل خلال حرب 1948، وهي حقيقة باتت مقبولة على نطاق واسع الآن، ولكنّها تعرض بطريقة ترسّخ الاعتقاد بتلك الأسطورة بدل أن تزعزعه، وهذا ما نجده في الاقتباس الآتي عن ليا سيغال من مدرسة الصهيونية الجديدة إذ تقول:
"تخبرنا هاتان الوثيقتان أنّ حرب 1948 لم تكن حربَ القلّة ضدّ الكثرة، فهذا أمرٌ لا يمكن إنكاره الآن. ولكن لم يعتقد الناس أنّ هذا يفنّد أسطورة القلّة ضدّ الكثرة؟ كيف يمكن لجيش يمثّل 65،000 إنسانٍ أن يهزم جيوش أمّة يبلغ تعدادها 35 مليون إنسان؟ الجواب إذن هو أنّ تلك الحرب قد كانت حرب نوعٍ ضد كم".
ثم تضيف قائلةً إنّ أي تفسير مغاير سيكون قطعًا من مدرسة مؤرخين من أمثال "إيلان بابيه وآفي شلايم" اللذين أصبحا بمحض إرادتهما ناطقين باسم البروباغاندا الفلسطينية.
يتّضح لدينا إذن أنّ الانتقال في إسرائيل من فترةِ السلام الحالمة إلى نذر الحرب المشؤومة قد انعكس في جهود التأريخ والجدل الأيديولوجيّ داخل المجتمع اليهودي في إسرائيل. وقد أشرت في الفصل السابق إلى أنّ هذا جزءٌ من تأرجح عامّ شهدته فكرة إسرائيل كسرديّة تاريخيّة منذ بروز حركة "التاريخ الجديد". ولكنّ نقد مفكري ما بعد الصهيونية لسلوك إسرائيل في الماضي والحاضر والذي بلغ أحيانًا حدّ التشكيك في الشرعية الأساسية والأخلاقيّة للأيديولوجية الصهيونيّة قد اندثرَ ليحلّ مكانه موقف نيو-صهيونيّ يتقيّد بالمبادئ الأساسية للأيديولوجيا الصهيونية الكلاسيكيّة.
يدل هذا التأرجح على القبضة المحكمة للأيديولوجيا على مجال التأريخ المتخصّص في إسرائيل، إذ كان نصيب الأيديولوجيا واضحًا كل الوضوح في بداية التسعينات وذلك حين جرى النقاش الأكاديمي في إسرائيل حول ما جرى عام 1948 ليس على الساحة الأكاديميّة وحسب بل وربّما بشكل أكبر في الميدان العامّ، حيث وظّف خطاب الوطنيّة والإنسانيّة لتسويغ كلا الموقفين. إنّ التأريخ الإسرائيليّ المتخصّص فيما يتعلق بالعام 1948 يعدّ مثالًا واضحًا على الطبيعة المتحيّزة للمشروع التأريخيّ وذلك نابعٌ من مركزيّة العام 1948 في السرديّات القوميّة للفلسطينيين والإسرائيليين على السواء. فالحركة الصهيونية ترى في ذلك العام معجزةً حقيقيّة بينما لا يجد الفلسطينيون فيه سوى نكبة كارثيّة ولدت على إثرها دولة إسرائيل ومشكلة اللاجئين، وهما أمران باقيان ما بقي هذا الصراع.
إنّ الحديث حول أفول ما بعد الصهيونيّة وما زامنه من صعود النيو-صهيونيّة في ميدان الأبحاث المتعلقة بتاريخ عام 1948 يساعدنا في فهم أمور أخرى عدا عن أثر الأيديولوجيا على الأكاديميين في مجتمعات يسودها التوتّر كالمجتمع الإسرائيلي. الأول هو تقديم مؤشّر على التوجّهات الفكرية والثقافية في المجتمع اليهودي في إسرائيل، وهي جوانب تكون عادة عرضة للإهمال لصالح التركيز شبه الحصري على السياسات الحكومية والإستراتيجيات العسكريّة على أنّها المحدّدات الوحيدة لموقف الدولة حيال وضعٍ ما. والثاني هو التأكيد مرّة أخرى على أنّ الصراع على الذاكرة سيبقى عاملًا أساسيًّا في تشكيل واقع الصراع الإسرائيلي الفلسطينيّ وسيؤثر على أية فرصٍ للتسويّة قد تسنح في المستقبل.
وأودّ أن أضيف أخيرًا أنّ الإجماع السائد حاليًّا في إسرائيل وما يقدّمه من مسوّغات كثيرة لما حدث في حرب 1948 يحملُ الكثير من التبعات السياسيّة بالغة الأهمّية. إنّها حالة تظهر أن إسرائيل غير راغبة في التصالح مع الماضي ومع الفلسطينيين، ويكشف صورةً لإسرائيل واثقةٍ بأنّ سياسات التطهير العرقي وسلب الآخرين ما يملكون يمكن تسويغها أخلاقيًّا والمضيّ بها سياسيًّا ما دام هنالك في الغرب سياسيون وأكاديميون ينأون عن إخضاع إسرائيل لتلك القيم والأحكام التي يطبقونها وبوحشيّة على دولٍ أخرى في العالم العربي والإسلاميّ.