أدركتُ قبل عشرين عامًا أنّه لا يصحّ إسلامي إلا إذا صحّت إنسانيتي، ولا تصحّ إنسانيتي إلا إذا امتلكتُ الوعي والشّجاعة الكافيين للتّخلّص من المغشوشات، التي رسخت في فكري وسلوكي على أنّها من الدّين.
لا تصح إنسانيتي إلا بالتخلص من المغشوشات التي رسخت في الفكر والسلوك على أنها من الدين
زارنا قريبًا لنا، فأمر أبي بأن يُعيد صلاته لأنّ أمّي مرّت أمامه؛ فـ"الحديث النبويّ يقول إنّ مرور المرأة والكلب الأسود أمام المصلّي يُبطل صلاته"! قلت له: هل تعتقد أن الرّسول، الذي كان الاهتمام بالنّساء آخرَ وصاياه، قال هذا؟ ألا ترى أن في ذلك تناقضًا مع تكريم السّماء لبني آدم؟ أم أنك تعتقد أنّ المرأة ليست من بنيه؟
اقرأ/ي أيضًا: عندما كانت أوروبا تحب الإسلام
قال: "لكنّ الحديث وارد في صحيح البخاري". قلت: هل أنا مطالب بأن أحتكم إلى روح النصّ القرآني، الذي خاطب المؤمنات والمؤمنين على حدّ سواء، وإلى روح سيرة الرّسول، الذي كان يُصلّي في حجرات تضجّ بعشر نساء، أم إلى ما ورد في كتابٍ جمعه إنسان غير معصوم من الخطأ مثلي؟ من الأولى بالدّفاع عن صورته؟ الرّسول أم البخاري؟ ثمّ إنّ كوني مسلمًا يُلزمني بمراعاة البعد الإنسانيّ في كلّ حكم من الأحكام، فما تعارض منها مع الرّوح الإنسانية، فهو عندي غير صحيح حتّى وإن صحّحه الشّيوخ.
أرغد وأزبد، وقال إنّني وقعت في الكفر الصّريح. فقلت له إنّ عمر الخيّام سُئل مرّة إن كان كافرًا، فقال : نعم. لكن بالإله الصّغير الذي في رؤوسكم.
إنّ اتباع سيرة النّبي لا تعني أن يُلغي المسلم شخصيته ومزاجه وخبرته ورغباته، ويُحِلَّ محلّها ما يُناظرها في سيرة النبيّ، فيكون مجرّدَ نسخةٍ منه هو شبيهه في كونه بشرًا. قال: لكنّه كان يتلقّى الوحي. قلت: جاء الوحي لتحديد المسارات الكبرى للإنسان لا لتحديد التفاصيل، التي ينبغي أن تترك لحرية وخصوصية كلّ ذات، وإلا انتفى الهدف من التعدّد والاختلاف.
إنّ اتباع سيرة النّبي لا تعني أن يُلغي المسلم شخصيته ومزاجه وخبرته ورغباته، ويُحِلَّ محلّها ما يُناظرها في سيرة النبيّ حرفيًا
هل أنا مطالب بأن أكره الثّوم والبصل لأن النبيّ كان يكرههما؟ قال: "هو نفسُه رخّص لنا في أكلهما". قلت: لماذا لا تفهم التّرخيص هنا على أنّه انتصار منه للخصوصيات الفردية في كلّ شيء؟ أم أنّك محتاج إلى ترخيص في كلّ التفاصيل؟ لماذا لا تفهم أنه كان يبدأ إفطاره في رمضان بالتّمر واللّبن على أنّه حثّ على الشّروع بما هو خفيف على المعدة، لا بالتّمر واللبن تحديدًا؟
اقرأ/ي أيضًا: التدين الأمريكي.. كيف يؤمن الملحدون؟
حدّثني الأستاذ الطّاهر بن عيشة يومًا قال: "ذهبت لأنجز تحقيقًا عن الإسلام في الاتحاد السوفييتي، فلاحظت أنّ الإمام حذف في إحدى الجنائز عبارة "واغسله بالماء والثلج والبَرَدِ" من الدّعاء للميّت. سألته عن سبب الحذف، فقال إنه في سيبيريا، وإنه يخشى أن يسمع الميّت الأمر، فيقفز هاربًا من قبره.
إنّ أبشع ما اقترفته الوهابية السّعودية على مدار قرن من الزّمن، كونُها رسّمت ما هو محلّي في سيرة النّبي بصفته من جوهر الدّين، وألزمت به مسلمي العالم. فلا هم استفادوا منه بحكم كونه مغايرًا، ولا هم حافظوا على خصوصياتهم المحلّية. ولم يكن ذلك سوى لهدف سياسيّ هو جعل الخصوصية السّعودية نموذجًا باسم الدّين، ليصبح الانتماء إلى الإسلام مربوطًا بالانتماء إليها.
من هنا، على المسلم المعاصر أن يستمتع بإزاحة الوسطاء في طريقه إلى الله. لأنه إذا أبقى عليهم سيقوده الطريق إلى المخلوق لا الخالق، فيُسْتَعْبَدَ من حيث أراد أن يتحرّر، ويخدم نظامًا معيّنًا من حيث أراد أن يخدم الإنسانية.
على المسلم المعاصر أن يستمتع بإزاحة الوسطاء في طريقه إلى الله. لأنه إذا أبقى عليهم سيقوده الطريق إلى المخلوق لا الخالق
ما بال بعض المسلمين المعاصرين يسكتون على سبّ الله، بينما يثورون حين يُسَبُّ شيوخهم السّعوديون؟ ما بال شيوخهم السّعوديين يصمتون حين تُهدّدُ مصالح الإنسانية، بينما يُرْعِدُون المنبرَ حين تُهدّد مصالح حكّامهم؟ ما بالك تتدخّل بيني وبين ربّي أيّها الكائن؟!
اقرأ/ي أيضًا: