انحصرَ متابعو ما جرى في مدينة حلب السورية على مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأسابيع القليلة الفائتة، ضمن الإطارات المحدودة التي يتزامن بروزها دائمًا مع وقوع كل الكوارث البشرية منذ بداية التاريخ. ولعلنا نكون مخطئين إذا ما قلنا إن طرائق تعبيرهم تلك تندرج كلها في إطار أحد الأساليب الدفاعية التي يمارسها الإنسان، المعروفة شيوعًا بـ"التبرير"، إذ لم يصف للأمانة أيٌّ ممن رأيت العنب بالحامض؛ إلا أننا نستطيع أن نجزم بالقول إن العادة جرت أن ينزع الإنسان في إحالة وإسقاط المكسور من نتائج أفعاله على قِوىً يدرك أنها تفوقه حجمًا أو إبهامًا على اختلاف ماهيّاتها، ويعلّق عليها آماله بكل تأكيد.
ينزع الإنسان في إحالة وإسقاط المكسور من نتائج أفعاله على قِوىً يدرك أنها تفوقه حجمًا
قدَّرَ الله وماشاءَ فعل
لا أدري إن كان الوقت المسموح لي باستيقافكم هنا سيسعفنا للحديث عن تقديرات الله وما لها وما عليها، لذلك سنتجنب الخوض في غمار علاقات الإيمان بالعقل، ونتفرغ كليًا لربط ما يجري حاليًا بالتاريخ، الذي لا بد أن يُعد بالنسبة لنا (تجارب يجب الاستفادة منها)، مع التنويه إلى أن هذا المقال ليس بصدد إجراء تحقيق صحفي لاستقصاء وجهات نظر متابعي ما يجري في سوريا، إنما هو للحديث ببساطة وبشكل خاص قدر الإمكان عن الإسقاط الذي يتبعه الإنسان في إرجاء نتائج أفعاله إلى تلك القوى التي تتعداه، وهذا أكبر بكل تأكيد من متابعة المتابِعين، أو لنسمّهم هنا "ميدان التجربة المعَطَّل".
اقرأ/ي أيضًا: بيان الكنيسة: هل يصفّق الأقباط للرئيس؟!
إنه من الواجب علينا مراجعة تلك التجارب التاريخية بتوضيح معمّق، لذا فقد أوليناه الاهتمام البارز، ومهدنا له كما هو واضح في المقدمة، وعليهِ لا يمكننا اقتباس الأحاديث الإلكترونية، ولا ملاحقتها، ولا محاولة نقضها بالحجة لبناء مقال المراد منه أساسًا الإسناد التاريخي إلى نقاط مفصلية في الذاكرة البشرية، والدفع باتجاه عدم الوقوع في متاهات بناء العالم بذات الطريقة المعايشة نتائجُها في الوقت الراهن.
إن أولى الأفكار التي شكلت فيما بعد منارةً لطرائق التفكير في العالم الحديث بدأت مع تمرّد رجل الدين اليهودي الشهير باروخ سبينوزا، المولود عام 1632؛ يرى الرجل أن الإيمان طريق ضروري لقيادة عامة الناس، ويُرجئه إلى أن الكتب المقدسة تعتمد في نصوصها على الخيال التصويري، والمجاز، وضرب الأمثلة، إضافة إلى اللغة الخطابية والحماسية، وأن عامة الناس هم بحاجة دائمة إلى من يقودهم ويقدم لهم قواعد جاهزة توفر عليهم الكثير من الوقت والجهد، وهذا ما يوفره الدين، الذي يُعد "أقصر" الطرق إلى "السعادة"، فبالإيمان يمكنك إسقاط كل نتيجة فعل سلبية كانت أم إيجابية على قوىً أُخرى، وبذلك تتخلى بكل بساطة عن مسؤوليتك تجاه أي شيء، فالله هو من يقدّر وهو من يفعل، وأنت في هذي الحالة لستَ إلا استمرارًا.
في الـ 19 من شهر تشرين الثاني/نوفمبر عام 1755 للميلاد، دمّر زلزالٌ أكثر من 15 ألف منزل في بوسطن، وكان قبلها بـ 18 يومًا قد قتلَ 100 ألف إنسان خلال لحظات، ودمَّر أكثر من 85٪ من العاصمة البرتغالية لشبونة، كتبَ فولتير حينها: "يَطعنُ الصقرُ بمِنسَرهِ الدامي أطراف فريسته المرتعشة، ويبدو كل شيءٍ على ما يرام في عينيه لفترة، ويمزِّقُ النسرُ الصقرَ إلى قطعٍ شرَّ تمزيق، ويرشقُ الإنسانُ النسرَ بنبالهِ فيقتله، ويسقط الإنسانُ في غبار معارك الحروب، ويختلطُ دمُهُ بدماء القتلى من رفاقه، ويصبحُ بدورهِ طعامًا للطيور الكاسرة، وهكذا كل شيء في هذا العالم.. يئن ويتألم، لقد وُلد الجميع للعذاب والموت، ومن فوق هذه الفوضى الشاحبة ستقول: ينزلُ الشر بواحدٍ لخير الجميع… ما هو النعيم! عندما تصرخ بصوت فانٍ يرثى له كل شيء حسن؟ ألم يكن في مقدور الله أن يصنعَ عالمًا ليس فيه هذا الشقاء الذي لا معنى له؟".
من هنا خرج فولتير إلى العالم على شكل ثورة، وخرج القوم من ورائه ثائرين على كل شيء ابتداءً بسلطة الكنيسة التي أثبتت عجزها عن إحداث تغيير حقيقي نحو الأفضل.
حينما أُصيبت مدينة وهران الجزائرية سنة 1947 بمرض "الطاعون" على لسان كامو في روايته الشهيرة، طُرحت أقسى الأسئلة حول ماهية القدر والوضعية البشرية، ولعل واحدة من أبرز ما عاينته الرواية، يتلخص في تركيزه على الدور الذي يلعبه رجال الدين من حيث إن الطاعون هو "غضب إلهي" ناتج عن فساد قلوب الناس، وضياعهم في متاهات الدنيا، والانحراف عن الصواب.
بالإيمان، حسب سبينوزا، يمكنك إسقاط كل نتيجة فعل على قوىً أُخرى
لا يزال الشرق يلعب على أوتار هذا الدور منذ عقود، ويمارسه في المدرسة، وعلى التلفاز، وفي الشوارع، والمقاهي العامة، والمنابر، الدينية منها والأدبية، إضافة إلى مواقع التواصل الاجتماعي.. فيسبوك نفسه يحمل على عاتقه الآن رسالة دعوية، للتصوف في أحسن أحوالها، وقد شهد هذا الخطاب أوجّه في العام 2012 حينما تعرّف السوريون على بعضهم للمرة الأولى خلف البندقية، بينما سعى الآخرون إلى رأب الصدع وحل الخلاف ذي الملمح الديني (بعض الشيء) عبر إيجاد الصيغة المناسبة التي كانت متمثلة آنذاك بمولانا جلال الدين الرومي، وقواعد العشق الأربعين، ولا غريب بعد ذلك أن ينتزع فيسبوك زمام المبادرة ليوضّح قيمة الإخوان المسلمين إذا ما قورنت بتنظيم الدولة الإسلامية، وهكذا ظلت الغالبية الساحقة في إطار إيجاد سبيل لفهم الله فهمًا يتناسب مع حقيقة أنه عادل، ولم تفضِ أي من تلك الأطروحات إلى شيء عادل من ناحيتها على أقل تقدير، إذ باتت تدفع المتابعين إبان كل كارثة إلى إعادة طرح السؤال: أين الله عما يجري؟ لماذا كل هذا القتل؟ أين العدالة ومتى زمانها إن لم تكن الآن؟ إن لم يَنصر الله هؤلاء القوم المحاصَرين في حلب، فلن يُعبد في الأرض مجددًا.. وعلى الجانب الآخر من المعادلة نفسها، استعاد الخطاب النيتشوي حماسته بكل سذاجة وقبح "لقد ماتَ الإله"، ولم يُحَل هذا الإشكال إلى الآن؛ إلا أننا نسأل: أوليسَ الأجدى بالإله العظيم أن يترفّع عن شؤون البشر، ويترك لعقولهم حرية تقرير المصير وتحمّل كافة النتائج دون أن يصرّ على إظهار علمه المسبق بها؟ هل سبقَ لكم أن سمعتم برئيس دولة ما يعمل على ضبط حركة مرور السيارات في بلاده؟ إن كان الله موجودًا أو لم يكن موجودًا، ما الذي يهمنا في هذا؟
اقرأ/ي أيضًا: سبعة أشياء لا يعرفها برلمان السيسي-عبد العال
أردوغان "أسد السنة"
طبقة ثانية من المتابعين تقدّم نفسها على أنها أكثر إشراقًا وانفتاحًا على المادّية، وهي الوجه الأرقى -إن صح التعبير- للخطابين الواردَين أعلاه بنقيضهما (العدمي المؤمن، والعدمي الملحد)، وهي أيضًا -بما لا شك فيه- تطوّر ملحوظ عنهما، برزت هي الأُخرى في خطابها على مواقع التواصل الاجتماعي كذلك، ففي الوقت الذي يُعرّف فيه شقها الأولُ الرئيسَ التركي على أنه حامي الحمى، الذي لن يفرّط في خطوطه الحمراء، يرى الشق الثاني أن الأول هلَّلَ للرئيس التركي، وتغاضى عن جرائم الفصائل المسلحة في سوريا، وخوَّن كل منتقديها، ووقفَ في وجه كل من أشار إلى الوبال الذي حملته تلك الفصائل للثورة السورية، كما يرى أن ذاك الشق هو ذاته الذي فرَّق بين تعريف جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية، وأن كل ما يجري من مصائب في حلب الآن هي نتيجة تلك التهليلات، ونتيجة للدعم الذي تلقته تلك الفصائل من تركيا على وجه الخصوص.
لست أعلم ما هو الدافع من ربط "التهليل للرئيس التركي" بتعريف النصرة والدولة والكارثة الإنسانية في حلب، وقد أحسبه أحد أنواع المتلازمات، كما هو الحال معي في كل ما أكتب حين تكون فائدة كل شيء مرتبطة بغاية الإنسان الأول، إلا أننا هاهنا نسأل كذلك: أليست هذه الفئة بشقيها الأول والثاني تعايش هيَ الأخرى معاناة الناس في سوريا؟ مافائدة هذا الكلام إذًا؟ وأي أنواع الإسقاط وتبادل الاتهامات هذا؟ الشق الأول من هذه الفئة هو الآن خائب، والثاني خائب كذلك، والاثنان يتعلّمان من النتائج الواضحة والملموسة على الأرض، والفرق بينهما هو فرق التوقيت لا أكثر، إذ ربما يكون الثاني قد أدرك خطورة المرجعية الإسلامية لدى المقاتلين تزامنًا مع ظهور المحيسني منددًا ومهددًا في أحسن الأحوال، بينما الأول يعيد ترتيب أوراقه الآن، وليسَ العيب -من وجهة نظره- أن تفشل، إنما العيب أن تيأس وتتكبر على فوائد التجربة في أحسن الأحوال كذلك؛ وهكذا يصارع الشقان هنا بعضهما البعض في عالمهما الخاص.
يمكنك أن تكون سفاحًا وأن تفني أممًا بأكملها بمجرد ابتسامة أو غض نظر
لسنا هنا بصدد الدفاع عن الرئيس التركي أو غيره، إلا أن انتقاد تركيا وانتقاد عامة الناس الذين دعوا هم أنفسهم العالَم الإسلامي أولًا لإنقاذه ومدِّهِ بالمقاتلين من هنا وهناك، وهم (عامة الناس) يضحّون ليل نهار (مُرغَمين على ذلك) في سبيل تحقيق غاية تبنّتها علّية القوم.. انتقادهم يُعد ضربًا من ضروب العبث والرغبة بالعودة إلى الوراء، وكأن العودة تلك حل للمشكلة وليس نفيًا لها.
اقرأ/ي أيضًا: نيران التصنيف
لماذا لم يُلقِ أحدهم اللوم مثلًا على محطات التلفزة التي لعبت على أوتار عبارة "يبحث المحاصَرون في حلب عن فتوى لقتل نسائهم كي يَحولوا دون اغتصابهن من قبل ميليشيات إيران".. لماذا؟ لقد فعلت هذه الجملة أكثر مما فعله الله والعالَم -إن صح القول- في سوريا.
أوباما.. القائد الوضيع
إلى الأعلى قليلًا، فئة حذقة، أكثر منطقية، وأكثر مادية، تؤمن بالسياسة، وترى ألا مستقبل لسوريا في ظل استمرار حكم عائلة الأسد لها مع الطغمة المتبقية.. فئة تدور أسئلتها في مباحث: هل يمكن أن تكون قاتلًا دون أن تحمل سكينًا؟ نعم، بل أكثر من ذلك، يمكنك أن تكون سفاحًا وأن تفني أممًا بأكملها بمجرد ابتسامة أو غض نظر.. أوباما، أيها الصغير الوضيع... سيذكر التاريخ أنك سمحت بوقوع أكبر مجازر القرن، وأنك أطلقت يد القتلة في كل مكان، ومنعت المظلومين أن يدافعوا عن أنفسهم.
لم يبقَ بعد كل ما قرأتموه أعلاه إلا القول، إن وجودنا الآن خالٍ من أي معنى في ظل حكم أوباما للولايات المتحدة الأمريكية.. يا للعدم! تعالوا نعد إلى فروج أمهاتنا، وياللسخرية… يريدون الحرية، ويؤمنون بسوريا خالية من بشار الأسد، وعالم خالٍ من باراك أوباما كذلك.. بوتين، أيها الصغير الوضيع… سيذكر التاريخ أنك... وهكذا يتشابه استجداء الميتافيزيقيا للالتفات إلى صرخات وعويل الإنسان، الذي يعوّل على الجميع إلا على عقله.
انكسارات المثقف أمام نفسه
المثقف نبي، موته أو فقدانه لذاكرته يعني موتًا للتجربة التي يَحفظها عن الآخرين، واندثارًا لآلاف التجارب والمعادلات، وضياعًا لمئات آلاف المخططات والدارات الكهربائية الفاشلة التي لا يمكن أن يعمل معها المصباح الكهربائي، إن بإمكانه أن يوفّر علينا عناء مئات السنين من البحث والاستقصاء.
غريب هو استجداء الميتافيزيقيا للالتفات إلى عويل الإنسان، يعوّل على الجميع إلا على عقله!
اقرأ/ي أيضًا: 4 تعويذات أيها العربي كي لا تبكي كثيرًا
لكن ما باله اليوم لا يُطلع على تلك المخططات إلا أبناء طبقته من المهندسين؟ أيُعجزه استخدام اللغة؟ لقد فعلت اللغة كل شيء، كلمات صغيرة تلفظ بها وزير الدفاع الإيراني عن أن بلاده سمحت لروسيا باستخدام قاعدة همدان الجوية، تكفي.. "إنهم يغتصبون نساء المسلمين" تكفي أيضًا، "من بدّل دينه فاقتلوه" تكفي، "يا أبا هريرة.. إني أحبّك، فافعل كذا" تكفي، "يا سارية الجبل الجبل" تكفي، وأحيانًا "كانَ إذا صعد المنبر استقبلَ الحاضرين وسلّم عليهم"، أو "لا تمشِ في الأرضِ مرحًا إنكَ لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولًا" تكفي، أما هو، فقد غرّد في حبسه كالمجذوم. لستُ أستجدي المثقف هنا، إنما أدينه مثلما تُدينه حرّيته وذاكرته.
والآن ستنهال علينا الاتهامات بالسوداوية والنظرة التشاؤمية، وسيقال: أحمق مُدعٍ.. نحن محاصَرون بينما هو يتجرأ على الذات الإلهية، وينتقد منتقدي تركيا وأمريكا وروسيا والعالم، ويتجرأ على المثقفين السوريين، ويشتم قنوات التلفزة التي ساهمت في إيصال صوت صراخنا وعويلنا وأنيننا ونحيبنا للعالم.
أوَثمّة ما هو أكثر تفاؤلًا وثقة من أن تعتمد على نتائج أفعالك؟ أو على قاعدة منطقية واحدة في حياتك كالجاذبية على الأقل؟ أوثمة ماهو أكثر تفاؤلًا من أن يُقال: يداكَ أوكتا وفوكَ نفخ؟… يا للهروب والطمأنينة والنعاس!
اقرأ/ي أيضًا: