لا يحب ابني الكتب. يقول إنه ليس مولعًا بها، ولكنه في الحقيقة لا يطيق حتى ملمسها. والكتب بالنسبة له هي فقط تلك المفروضة عليه في المنهاج المدرسي، وما عداها فهو لا يجاملني ولو بإلقاء نظرة على عنوان رواية أعلن شغفي بها، وعندما أحتال على تجاهله بأن أتحدث إلى آخرين، على مسمعه، عن مزايا القراءة وفوائد الكتاب، فإنه يعلق نظره بفراغ ما ويرسم على شفتيه ابتسامة ساخرة يتعمد أن تكون جارحة.
أكوام الأوراق هذه لم تكن إلا مخبئي السري الذي هربت إليه من العالم القاسي في الخارج، بعد أن عجزت عن مواجهته ويئست من إتقان العيش فيه
لا أحتاج أن أكون محللًا نفسيًا لأعرف السبب: إنه يعاقبني على مآلي ومآله، ومع شيء من حسن الظن فهو يحاول تصويب مساري، ذلك أنه يربط (بحق أو بغير حق) بين إدماني على الكتب وبين فشلي الذريع في الحياة، أنا الذي لم أستطع أن أؤمن له مسكنًا أكثر من هذا الذي يسميه "قفصًا يضيق به الدجاج"، ولم أستطع أن أبقى متشبثًا بذيل الطبقة الوسطى فسقطتُ، مع من سقطوا، إلى الطبقة الدنيا المهددة بالجوع والموعودة بمزيد من الحرمان، ولما أيقنت أن موعد الرحيل قد أزف لم أجد في جيبي ثمن تذكرة "بلم" حتى من تلك المعدة جيدًا للغرق.
اقرأ/ي أيضًا: روجيه غرينييه.. في قصر الكتب
لطالما أربكتني نظرته الصقيعية إلي وأنا أقرأ، ولكثر ما رأيت في عينية سياطًا تلسع روحي. وشيئًا فشيئًا استبطنت إحساسًا معذبًا بالذنب، ورحت أفقد ثقتي بعقلي وبكتبي، وكنت أقول لنفسي: بالطبع إنه محق.. لقد صنعتُ لي عالمًا وهميًا من ورق، عشتُ فيه مخدرًا مشلول الإرادة منفصلًا عن الواقع، ولأكن شجاعًا مرة وأعترف: فأكوام الأوراق هذه لم تكن إلا مخبئي السري الذي هربت إليه من العالم القاسي في الخارج، بعد أن عجزت عن مواجهته ويئست من إتقان العيش فيه..
وفي لحظات صحوي (أو غفلتي.. حقًا ما عدت أدري) أعود لأشجع نفسي: لا، لقد أنقذتني الكتب، فماذا كنت لأصبح لولاها؟ ماذا كنت سأفعل؟ أحمل بندقية وأنخرط في حفل القتل الجنوني؟ أنضم إلى عصابة خطف؟ أبيع المازوت في السوق السوداء؟ أبيع ربطات الخبز على قارعة الطريق؟
ولكن عبثًا، فالسؤال يبقى مدويًا في رأسي: لمَ الكتب؟
منذ نحو أربعين عامًا كان أخي الأكبر قد أعطاني كتابًا لأقرأه، وقال لي إن صدري سوف يتسع وعقلي سوف يكبر، كان كتاب الفضيلة للمنفلوطي، ولأنني لم أكن، وقتئذ، أعرف شيئًا عن المعاصي فإن فضولي كان معدومًا إزاء الفضيلة. طلبت تغيير الكتاب فكان التالي كتاب تاريخ، كتابًا مصورًا عن الحرب العالمية الأولى، وإثر قراءة الصفحة الأولى كان مفعول السحر قد بدأ بالعمل، فعلقت في عالم الكتب ولا أزال عالقًا.. واليوم من يستطيع أن يؤكد لي أن صدري اتسع وعقلي صار أكبر؟! لماذا لا أكون فقط قد حصلت على مسكّن قوي، عزاء مخدر، تعويض عن الحياة الحقيقية المتعذرة؟ لماذا لا أكون ببساطة ذلك الذي "ضيع في الأوهام عمره"؟.
أهرع إلى الكتب مطالبًا إياها بالدفاع عن نفسها. أستنجد بكتابي المفضلين الذين يتحملون مسؤولية إغوائي بما يثير حنق فتاي. الجاحظ، طه حسين، نجيب محفوظ، العقاد، بورخيس، يوسا، مانغويل، هنري ميلر.. "كل مكتبة هي صفعة في وجه العالم الجاهل.. أحب الكتاب لا لأنني زاهد في الحياة ولكن لأن حياة واحدة لا تكفيني.. بيت بلا كتب جسد بلا روح.. الكتب هي ثروة العالم المخزونة وأفضل إرث للأجيال والأمم.. القراءة مثل التنفس إنها وظيفة حيوية أساسية.. القراءة تمنحنا مكانًا آخر نذهب إليه عندما نضطر للبقاء في أماكننا.. الكتاب ليس فقط صديقًا بل يصنع لك أصدقاء.. إني لا أعلم شجرة أطول عمرًا ولا أطيب ثمرًا ولا أقرب مجتنى من كتاب"
مصطفى أمين: "أفضل لأبني أن يقرأ ألف كتاب ويجوع، على أن يأكل في هيلتون ويقرأ دفتر التلفون!"
لا.. فهؤلاء المدمنون المزمنون لن يستطيعوا إلا إقناع مدمن ساذج مثلي، أما عن ابني فهم لن ينجحوا إلا في توسيع ابتسامته الساخرة الجارحة. وإذا ما تجرأت وأطلعته على محفوظاتي من "الحكم الذهبية" هذه، فبالتأكيد لن أجرؤ على أن أنقل له ما كان قاله الصحفي المصري الراحل مصطفى أمين: "أفضل لأبني أن يقرأ ألف كتاب ويجوع، على أن يأكل في هيلتون ويقرأ دفتر التلفون!"، لأنني عندئذ سأكون قد أيقظت في نفسه شهوة قتل الأب!
اقرأ/ي أيضًا: في أشياء القراءة والكتب
الآن وحتى أجل غير معلوم لا شيء سيجدي مع هذا الفتى الذي يجري في دمه توق هائل للحياة.. الحياة التي من لحم ودم وبارود لا من ورق، حتى أنه لن يكلف نفسه مشقة قراءة هذا المقال الذي ما هو إلا مجرد اعتذار متلعثم، تسول خجول للغفران..
أما أنا فسأقوم من غدي لأمسك كتابًا جديدًا، وأقرأه بمتعة ملوثة بشعور الندم والإحساس بالذنب.
اقرأ/ي أيضًا: