انتهى مارك أمجد من كتابة الرواية في كانون الأول/ديسمبر الماضي، كان يمكن أن يدفع بها إلى دار نشر شبابية تجيد التسويق أكثر من اختيار الأعمال، ليصبح من مشاهير فيسبوك وتويتر، كان يمكن أن يترك الرواية لتضيع في دوامات "الأكثر مبيعًا"، لكن انبهاره باسم صنع الله إبراهيم، السياسي لا الروائي، صاحب المواقف ضد نظام مبارك، وفاروق حسني، وليس صاحب رواية "بيروت بيروت" جعله الناشر المثالي للرواية من وجهة نظر "مارك".
أحمد ناجي محبوس بسبب رواية "استخدام الحياة"، وإسلام بحيري يقضي فترة عقوبة بسبب كلمة
يقول: "كنت أعرف حجم المصادمات التي ستقع عقب صدور الكتاب سواء مع الكنيسة أو الشبان الأقباط المتعصبين لثوابتهم أو القارئ المسيحي العادي، فكان هو الأفضل للمواجهة". ركب مارك أول تاكسي وذهب إلى "32 شارع صبري أبو علم، باب اللوق"، حيث دار "الثقافة الجديدة" لمالكها صنع الله، وفي يده مظروف أبيض كبير يطوي صفحات الرواية، التي تحمل اسم "الرقص على أرغن الرب". وضع الظرف على مكتب سكرتير الدار، فتحه وراح يقلِّب في صفحاته الأولى، ثم رفع نظره، وقال بنبرة تأنيب لا تخلو من رفض: "أنت بتخبط في الكنيسة شكلك؟". استقبل مارك رد الفعل بشكل دبلوماسي، كان يتوقعه، ولا يزال يتوقع أفجع منه بعد صدور الرواية (إن صدرت!).
اقرأ/ي أيضًا: قتلتُ لأنني أردتُ أن أحيا
مصر لم تعد أرضًا مهيأة لاستقبال الرسالات والنبوات والروايات أيضًا، أحمد ناجي محبوس بسبب رواية "استخدام الحياة"، وإسلام بحيري يقضي فترة عقوبة بسبب كلمة، وحكم صدر ضد الشاعرة فاطمة ناعوت بسبب نقد عابر في ظروف عابرة، ولذلك كان رفض فكرة رواية تتناول التاريخ السري للكنيسة المصرية، وليس الرواية نفسها، مستوعبًا، ومتوقعًا. بالنسبة إلى مارك كان الرد جاهزًا، قال لسكرتير "الثقافة الجديدة": "إيه المشكلة؟ مش مسيحي؟!".
استجمع الموظف لدى الروائي صنع الله إبراهيم قوته، وحفظه لقوانين العقود، ورد: "الدار بتشيل المسؤولية لو حصل حاجة. لكن أنت عارف إنك هتوقع على بند في العقد يحملك المسؤولية لو لا قدر الله حصل حاجة؟". لم يكن مشهد كهذا في عملية نشر الرواية يدعو للتفاؤل، لكنه لا يوحي بأن هناك مشكلة، الشخص الجالس على المكتب سكرتير، وليس عضو لجنة القراءة بالدار. هكذا عزَّى مارك نفسه، وانتظر شهرًا حتى تمرّ الرواية بدورة النشر الطبيعية، تعرض على لجنة القراءة، ومحرر الدار، وصنع الله إبراهيم، والشؤون القانونية، وفي الوقت المناسب، اتصل بهم، وسأل من رد عليه: "لماذا لم تعتذروا بشكل رسمي بدلًا من تركي هكذا؟".
على الجانب الآخر من الهاتف، تعجّب مسؤول الدار مما قاله "مارك"، وقال له: "الرواية قبلت بالفعل، لكن هناك مسائل قانونية (بسبب طبيعة النصّ) يدرسها القائمون بالدار، وسنتصل بك بعد الانتهاء منها". يصف مارك أمجد، صاحب الرواية الممنوعة، حاله بعد الاتصال.. "كانت هذه هي المرة الأولى التي أشعر فيها بأي سعادة تجاه ما كتبت، ومع ذلك لم يدم الأمر طويلًا، فسريعًا ما بدأت الأفكار السيئة تجتاحني، ثم أيام طويلة وينتابني بعدها شعور بأنهم سيرفضون في النهاية".
تخترق "الرقص على أرغن الإله" الملفات السرية للأقباط في مصر لمدة قرن، من 1954 حتى 2054
وينتقل مارك إلى ما جرى بعد شهر: "في زيارة لي لمنطقة وسط البلد بالقاهرة قررت أن أعرّج على الدار. رحب بي السكرتير وفي هذه المرة أخبرني بأن الأستاذ صنع الله معجب بالرواية، صدمتني الجملة فانشغلت عن وساوسي وغادرت الدار دون أن أستفسر عن أي تفاصيل أخرى مملة".
اقرأ/ي أيضًا: في حضرة محمود درويش الألمانيّ
هل نفتش تحت جلد الأديب الشاب مارك أمجد قليلًا؟ هرب من الإسكندرية إلى القاهرة للالتحاق بكلية الإعلام، مدمن روايات وقصص أوروبية، ويعترف إنه ليس قارئًا نهمًا للأدب العربي والمصري تحديدًا، لم يقرأ لصنع الله ما يكفي لكي يعجب بأدبه، قرأ القليل له، وقرأ الكثير عنه فأعجب بصراعاته، ومواقفه، ويساريته المبتذلة، ودفاعه المستميت أمام النيابة عن أحمد ناجي، ولهذا ارتاح لصنع الله السياسي لا الروائي.
كان لا بد من صدمة في طريق "مارك"، المفروش بالخوف من الكنيسة، والرقابة، وقضايا ازدراء الأديان.. يكشف عنها: "كنت مخطئًا. بعد أسابيع قليلة لم أحتمل الانتظار فاتصلت بالدار أسأل في غضب عن ماهية تلك الإجراءات القانونية التي تستمر لشهرين، وطلبت من السكرتير أن يخبرني بشيء من اثنين في أسرع وقت، إما أنهم حلوا ما يتكلمون عنه، أو أنهم يرفضون النص. تقبل غضبي وطلب مني مهلة لمدة أسبوعين فقط وبعدها بإمكاني أن أتوجه لأي دار أخرى. بعد الأسبوعين اتصلت أنا فاعتذر لي نفس الرجل بنبرة أكثر أسفًا من أي مرة مضت".
يسجل مارك ملاحظتين علي دار "الثقافة الجديدة": 1. احتفظ صنع الله إبراهيم بالمخطوطة لمدة شهرين الأمر الذي لا يجعلني أشك في أن النص نال إعجابه، خاصة وأنه طوال هذه الفترة كان يحاول أن يحل مشاكله التي ذكروها وكان الأولى أن يعتذر في الأيام الأولى إذا لم تعجبه الرواية. 2. في مرة من المرات أخبرني السكرتير بأن الأستاذ عرض الرواية على مفكر وكاتب مسيحي وقد أبدى انزعاجه من المكتوب. صحيح أنها حركة ذكية من صنع الله كي يقيس نبض الوسط الثقافي قبل النشر، إلا أنها لم تكن في صالحي أنا والرواية على الإطلاق.
هل سيظل تاريخ الكنيسة مخفيًا في فترات وفي أخرى مرقعًا بأكاذيب حتى بالنسبة للمسيحين أنفسهم؟
هنا، يمكن أن تضع علامة تعجب، صاحب الرواية الممنوعة لم يقابل صنع الله على الإطلاق طوال فترة تواجد الرواية في داره، وكانت بينهما "قنطرة" دائمًا. كان يتولى المسألة "سكرتير" ينقل من وإلى صاحب رواية "ذات"، ما يعني أنه رفضها، ومنعها دون أن يتدخل، لكي لا تدنِّس ثيابه – الذي يبدو طاهرًا - "فضيحة المنع".
اقرأ/ي أيضًا: ما بعد إسرائيل.. تشريح الذات الصهيونية
تواصلنا مع صنع الله إبراهيم، مالك "الثقافة الجديدة"، الذي رفض التعليق على رفض نشر الرواية، معتبرًا الأمر شأنًا داخليا خاصة بالمسؤولين عن الدار، وقال: "لسنا مجبرين على نشر أي أعمال غير مناسبة". "عدم مناسبة النص للنشر" السبب الذي دفع 5 دور نشر، عرض "مارك" الرواية عليها، إلى الرفض أيضًا، ووضعها في خانة "الممنوعات"، منها: "التنوير" و"الكرمة"، ما يجبره على البحث عن ناشر لبناني يتحمَّل مخاطرة طباعة الرواية، وتسويقها، ويقول: "على كل حال، كنت أفضل التعامل مع ناشر مصري".
لماذا تتخوَّف دور النشر من "الرقص على أرغن الرب"؟ والإجابة ستحرق أجزاء من الرواية. تخترق "الرقص على أرغن الإله" الملفات السرية للأقباط في مصر لمدة قرن، من 1954 حتى 2054. تحمل الرواية حكايات عن لعبة "عض الأصابع" بين الكنيسة والدولة.. والعلاقة بين الطرفين خلال التاريخ كله فاضحة، لا الدولة تترك صلوات الله لله وحده، ولا الكنيسة المصرية تجرؤ على الكلام.
أرشيف "صفقات البابا" متخم بالحكايات والأسرار والاتفاقات والأوامر والتوجيهات والجرائم المشتركة، التي كانت الكنيسة عمودًا فيها خلال فترة حكم مبارك والسادات، لكن دورها تراجع مؤخرًا، لتصبح إحدى مؤسسات الدولة. بعض من هذا تقتحمه الرواية من خلال علاقات غير سوية، لتنتقل إلى قلب الكنيسة، تخترقه، وتعري صراعات خفية بين قطاع الكهنة من جانب والمفكرين على الجانب الآخر. وبين الكهنة الباحثين عن "الغنى الفاحش" وتعاليم المسيح التي تنص على أن "مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله". وبين الكهنة والشعب، وأخيرًا، بين شعب الكنيسة والشباب، الذي أصبح مؤخرًا يفر إلى الطائفة الإنجيلية أفواجًا، لأنها "بلا التزامات وتعد كل الناس بالجنة دون حساب".
تدور الرواية حول مخطط فاشل لاختطاف البابا. "اختطاف البابا" عنوان مناسب للرواية أكثر من "العزف على أورغن الإله" من الناحية التجارية في سوق الكتب "الأكثر مبيعًا"، لكن مارك لا يميل للعناوين "الساخنة". تدور أحداث الرواية في فترة زمنية لم تأتِ بعد (إلى 2054م)، سمح المؤلف لنفسه ببناء افتراضات ومشاهد واختراع شخصيات وأحداث "لو ألقيت أمام أي مسيحي سيضحك أو يضرب قائلها"، وفق رؤية مارك.
ينتقل الروائي الشاب من مساحة الانفعالات، المساحة الخاصة لأي روائي، إلى مساحة الرأي، يعبّر عما يدور في ذهنه، ملاحظاته على الكنيسة، معلوماته عن انحرافات الرهبان، تعليقه على لحظات طيش الشباب القبطي، لدرجة كتابة نصّ متحرر من أي إطار أخلاقي أو ديني عن الكنيسة.
يدوَّن مارك في أوراقه وضع المرأة في النصوص التوراتية وحتى الكتابات الإنجيلية الحديثة (رسائل بولس الرسول مثلًا)، ويخلق علاقات وشخصيات واشتباكات لا تروق لرجال الدين ولا الأقباط. ولأن المرأة وسواس بالنسبة إلى السلفيين، مسيحيين ومسلمين، يعرض مارك نصوصًا "تحتقر" المرأة تكشف سوءات النصوص المقدسة.
السؤال الآن.."هل سيظل تاريخ الكنيسة مخفيًا في فترات، وفي أخرى مرقعًا بأكاذيب، حتى بالنسبة للمسيحين أنفسهم؟". "العزف على أورغن الإله" ليست عملًا أدبيًا يهاجم الكنيسة، وسياستها، إنما متاهة سيكرهها أي مسيحي يقف أمام المرآة ليرى نفسه عاريًا! هل نقول "على المكشوف"؟ رواية مارك لا تخلو من مشاهد جنسية ومخططات وصفقات داخل الكنيسة، وبين الرهبان والراهبات، وحول الأديرة، وعلى العتبات المقدسة.
اقرأ/ي أيضًا: