في مشهد من فيلم "عمارة يعقوبيان" يظهر خالد صالح في دور رجل السلطة، مع رجل الأعمال نور الشريف، الذي يسعى لرشوته، أملًا بفرصة الترشح لمجلس الشعب، باسم الحزب الوطني.
"الشعب ماسك في ذيل الحكومة، كأنها أمه التي خلفته، حتى لو كانت الحكومة دي ولا مؤاخذة، ماشية على حل شعرها" يقول صالح، واصفًا نتيجة سياسات الحكومات المصرية المستبدة للسيطرة على الشعب وتطويعه. وهي السياسات التي مورست بفظاعة وبدائية أكبر، في بلدان أخرى، أحدها اليمن.
فمن تدمير الطبقة الوسطى، وتقسيم المجتمع إلى طبقة إقطاعية غنية، وأخرى كادحة، مرورًا بتثبيط من يوصفون مجازًا، برجال الدولة، ليصبحوا أشبه بالعالة، لا مكان لهم ولا سلطان إلا باسم الحاكم.
سعى الأئمة الهاشميون في اليمن إلى ربط العسكر بهم، من خلال بناء جيش فقير وهزيل، مهمته تتمثل في التسلط
وعلى دم المحكوم ومن عرقه، وحتى تنظيم العلاقات بين شرائح المجتمع، بما يجعل خيوط الحكم، وأدوات السيطرة، في يد الإمام/الحاكم والأقربين من حاشيته. عاش اليمن، الشمالي على وجه الخصوص، هذه الحالة على مدى قرن على الأقل، ورغم التغييرات التي حدثت في بنيته السياسية، إلا أن الابتزاز بالحاجة ظل الوسيلة المثلى للسيطرة.
اقرأ/ي أيضًا: كيف استطاع الحوثيون السيطرة على الإعلام اليمني؟
فقد سعى الأئمة الهاشميون في اليمن، إلى ربط العسكر بهم، من خلال بناء جيش فقير، وهزيل، مهمته تتمثل في التسلط، والاعتياش على رزق المواطن، وهو ما لن يحدث دون استخدام اسم الإمام وسلطانه. المظاهر الكارثية للسياسيات الإمامية، لم تكن في بناء جيش مهمته تتلخص في الجباية والحماية للأسرة الحاكمة فحسب.
بل إن الطابع التوسعي للأئمة قد وظف الجيش في الغزو الاستباحي، وكان الغزو الداخلي للمناطق اليمنية بمثابة فرصة وحيدة لتوسيع أرزاق العسكر الذين ينهبون الممتلكات، خاصة أو عامة، باسم الفيء أو الغنائم، وهو التقليد المتجدد إلى اليوم. وهي عوامل صُنعت ووظفت بعناية لإفساد العلاقة بين الرعية والجيش، وهدم الثقة، بما يمنع تظافرهم للثورة على الإمام.
وكذلك كانت استراتيجية إفقار الشعب وتجويعه، ووظيفتها في شغل المواطن بالجري وراء لقمة عيشه، وسداد ما عليه من جبايات للدولة، وإلهائه عن المطالبة بأي حقوق صغرت أو كبرت، تهدف لإخافته، بل إرعابه، من فكرة الثورة والتغيير خوفًا على رزقه وحياته، ومعاش أسرته، مما قد يطرأ عليه جراء هذا التغيير.
يقابل هذا، سياسة الإثراء والاحتكار، فالإمامة، بطابعها السلالي والاصطفائي العنصري، القائل بانتساب الحاكم ومعه عدد من الأسر، يتجاوز تعدادها في اليمن مئات الآلاف، إلى الحسن والحسين بن علي، جعلوا أنفسهم بموجب فتاوى مذهبية، مستحقين للخُمس من الفيء والركاز، أو ما في باطن الأرض، باعتبارهم من آل بيت النبوة!
وبما أن طبقة الهاشميين هي الحاكمة والمهيمنة، باسم الانتساب للرسول محمد، فقد أثْرت بشكل مهول، وعزز نفوذها المالي، نفوذها العلمي، فاحتكرت الطبقة الهاشمية تليها طبقة القضاة، العلم بشقيه، الوضعي والديني، فيما كان تجهيل الشعب مسلمة وبديهية لا نقاش فيها، ليسهل قيادته بالخرافة والتجهيل، ويضاف جهله إلى فقره فيركع.
لذلك، حملت ثورة 26 أيلول/سبتمبر 1962، ضمن أهدافها الستة، هدفًا خاصًا بإزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات، وطبع الرئيس الثالث بعد الثورة إبراهيم الحمدي، بطابعه السبتمبري، قرارات بعضها بدا شكليًا، من قبيل إلغاء ألقاب التفخيم، كالسيد، والتي تطلق حصرًا على أبناء السلالات الهاشمية، والشيخ لزعماء القبائل ونقبائها واستبدالها بلفظة الأخ لمخاطبة الجميع، بمن فيهم الرئيس بطبيعة الحال.
وبعيد اغتيال إبراهيم الحمدي، بعشرة أشهر، خلفه فيها أحمد الغشمي الذي لم يتم شهره التاسع في السلطة، ليصعد علي عبد الله صالح، على نمو اقتصادي، واحتياطي نقدي ضخم نسبيًا، وعملة مزدهرة، ومشاريع بنى تحتية عملاقة، ابتدأها الحمدي خلال سنوات حكمه الثلاث، ليقطف ثمرتها صالح، الذي جاء ليقص أشرطة الافتتاح فحسب.
لكن الذي جرى بعد ذلك، هو قصر الحياة الاقتصادية والاجتماعية على نموذج الأئمة، وبما يكفل لصالح البقاء طويلًا في السلطة.
اقتضى هذا تآكل الطبقة الوسطى تدريجيًا، وكل فاعلياتها العلمية والمعرفية والثقافية والاجتماعية، وإحباط رأس المال الوطني، وإنشاء طبقة جديدة، اقتصادية وسياسية من العسكريين الانتهازيين بالتعاون مع المشيخ القبلي ضمن جغرافيا الزيدية واقتسام النفوذ.
اقرأ/ي أيضًا: عملية إماتة القلب.. تمت بنجاح
لقد كان قرار منع استيراد البضائع مطلع الثمانينيات والهادف، ظاهريًا لتشجيع الصناعة المحلية، فرصة ثمينة لبدء احتكاره العصبوي الخاص، وتدمير البرجوازية الوطنية. فالقرار يسمح بالاستيراد، بأمر خطي فقط من رئيس الجمهورية.
ما جرى في اليمن هو قصر الحياة الاقتصادية والاجتماعية على نموذج الأئمة، وبما يكفل لصالح البقاء طويلًا في السلطة
يقول برلمانيون وسياسيون عاصروا المرحلة، إن كل طلبات الاستيراد للمواد الملحة، والتي قدمها التجار والصناعيون من البرجوازية الفلاحية، كانت تقابل بالرفض، وكان صالح يشجع ضباطه وبدعم منه، لتقديم طلبات استيراد مشابهة لتلك المرفوضة، ومن ثم يوجه بالسماح لهم باستيرادها، وبيعها بثمن مضاعف لصانعي البرجوازية الفلاحية.
ومن هنا، نشأت بمحاذاة الإقطاعية الهاشمية، التي أعيد تموضعها داخل السلطة بنسبة تفوق النصف في اتفاق للمصالحة عام 1970. قسمت بموجبه الحكومة نصفين، بين الملكيين "هاشميين"، والجمهوريين "هاشميين أيضًا، مشائخ، عسكر، فلاحين، وقضاة"، طبقة رأس المال الطفيلي المرتبط بالسلطة، وهي الطبقة التي شكل غالبيتها طرفان، شيوخ القبائل والعسكر الانتهازيون.
فيما حوصرت البرجوازية الفلاحية، وهي الداعم الرئيس لـ"ثورة سبتمبر"، في اليمن بشطريه، إذ صدرت قرارات التأميم التي اتخذها النظام الشيوعي في الجنوب، والتي قصمت ظهور التجار والصناعيين اليمنيين الذين لجأ أغلبهم إلى الشمال ليتم تهميشهم لصالح الرأسماليين الطفيليين، ما دفعهم للاستثمار خارج اليمن، وصناعة فرص جديدة، عوضتهم عما لحق بهم من خسائر.
اقرأ/ي أيضًا: