قال من يمكن نعته بشاعر الأرض، لا غواتيمالا وهنودها الحمر فقط، الراحل إمبرتو أكابال مرة أن "العدالة لا تتحدث لغة الهنود الحمر، كما لا تمشي حافية على الأرض". لا أحد كان يمكن له أن يعلم أو يدعي أن نبوءة أكابال ستحط على أكتاف كثيرة، خاصة في شكل الخروج من الوجود الحسي الملموس، لا عالم الأثر بالضرورة. بأكثر ما يتعلق بخصوصية الهنود الحمر، أن تكون الأكتاف لأصحاب وجود ومقولة فيما يرتبط بهندي الشرق الأوسط الأحمر، أي الفلسطيني بما هو كائن مقتلع مشتت ومساق إلى إكراهات علمها عند تفاصيل يومه أولًا، كل يوم، لا يومه الأخير اشتراطًا في كوكب الأوكسجين والماء فقط.
رحل الحكم النعيمي رفقة يحيى حسن على التوالي ليبقى أثرهما الباهر في عالم لا يبتغي الشعر إلا ترفًا
رحيل في المنفى/المهجر، بل الأحرى في الشتات، مستعجل ومبكر بحساب متوسطات عمر سكان الكوكب أجمعين، جاء نصيبهما لا نصيب رايتهما الشعرية الغاضبة والمتقاطعة، الحكم النعيمي ورفيق له من حيث دبر أو لم يدبر يحيى حسن.
اقرأ/ي أيضًا: لَكماتٌ مقترحةٌ لرأسماليّة تترنّح على وقع الكورونا
أتى هبوطهما إلى عالم الغائبين حسًا بعيدًا عن ماكينات الإعلام ومسنناته بالجملة تقريبًا، خاصة تلك التي اعتادت منازلتهما بشروط تخلت عن العدالة لحظة انطلاق المبارزة غير العادلة في افتراضها القبلي أساسًا. كما رحلا، النعيمي وحسن، في الوقت الذي انشغل الكل بعدم الرحيل وممكناته.
إذ رحلا عن عالم لا يبتغي الشعر الا ترفًا. عالم يكابر على قوى الطبيعة لتركعه في كل مرة، عسى أن تتعلم قوى المقهورين منها نذرًا معقولًا فعالًا، لتكسر ركبة الهيمنة وتغييب العقل وحتى سؤال الأخلاق المعلق والمعلقة مرة بفعل استحقاق طبيعي لكن بقوى البشر لا الطبيعة. أو أقله أن تفصح، أو تبدأ بالإفصاح عن ذاتها وممكانتها، أي قوى البشر لا قوى تراكم فائض القيمة، المالية المضارباتية غير المنتجة، بل والضارة، اليوم لسخرية المشهد الموجعة إلى حد معقول أيضًا.
تصادف استهلال الفارس الشعري التشكيلي الحكم النعيمي لاستراحته النهائية أن سبق فارس ضرورات الحياة قبل ضرورات الشعر يحيى حسن بأيام معدودات معلومات قبل رفقة الأول من أيار/ فاتح ماي بما هو "عيد للعمال". عن أي عيد وأي عمال؟ هذا مبحث متسق لمواضع أخرى غير جنازات الأبطال، شعريون و/أو ممارساتيون، بما يستوجب ويستجلب من ضرورات في إعادة النظر على عتبة جوهر ما يعنيه أو سيعنيه عيد العمال لاحقًا في عالم جديد غير شجاع بالضرورة، شجاع بالمأمول الممارساتي. إذ لا يعقل أن تستمر صنمية هذا اليوم والتبختر فيه، خاصة أمام هول مصاب الكوكب والـ"كرنتينا" الشاهقة التي وجد الناس ذواتهم قبل أنفسهم في حضرتها. بما كشفت لهم من تقصيراتهم هم أنفسهم والتقصيرات بحقهم/حقوقهم.
كما لا يعقل أن يتم التوقف عند منجز عمالي عمره من عمر منتصف التحولات الكبرى في الاجتماع البشري أو أكثر كمناسبة كرنفالية لا عتبة تراكم. كيف لا؟ ودولة نظام استعماري عنصري كالتي للحركة الصهيونية في فلسطين، وإن كانت قد طوت صفحة هويتها العمالية والكيبوتسية منذ انقلاب الليكود أواخر سبعينات القرن 20 وصولًا لأعتى الشطحات النيوليبرالية بالمزج الاستعماري الإحلالي اليوم، قدمت لعمالها منذ سنوات يوم عمل الـ7 ساعات وأسبوع الـ5 أيام، بما فيها ساعات الوصول والمغادرة من المنزل إلى موقع العمل أو لوحة مفاتيحه والعكس بالعكس. هل تبقى من معنى حتى للتفكير بعدالة مطلب الـ8 ساعات المتقادم؟.
اقرأ/ي أيضًا: الحكاية التي في عينَي يحيى حسن
على أي حال، وفي كل الأحوال، بالوقوف عند رأس البطلين، النعيمي وحسن، يمكن القول في حالتهما أنها ليست مجرد غربة، بل ليست الغربة تمامًا ولا الشتات والمنفى بما فيهما من القسرية في كل تلويناتهما، إنما هي أنياب الاغتراب في ذروة استذئابها وسيلان لعابها.
هل الاغتراب استكشاف ماركسي؟ ربما بالمفهوم والمفهومية وتسويغها اصطلاحيًا. لكن ماذا عن الاغتراب في أنماط الانتاج ما قبل الرأسمالي، بما يقصد إليه أساسًا ما قبل صناعي وقبل حمائية حدود السوق القومية. ماذا عن نبوءات عصور الأنبياء وتكهن جنس الملائكة والشياطين وطبائعهم وهيأتهم التي تشاغل اغترابات الناس حتى اليوم، ليبقى الأكثر مركزية محاولة استفهام عن الاغتراب في عصر ماورائيات التسليع، حتى شعريًا.
الاغتراب ذاته الذي قوض كل من حسن والنعيمي ما قوضاه في فعلاتهما الشعرية الكثيرة، كما في كتابة الشعر. يحضر في منجزهما ومقولاتهما، أدبية وغير أدبية، لكن مؤدبة ميالة للصالح العام باستمرار باهر. فما الشعر دون أن يكون الشاعر كاتبًا وسيطًا بالفهم التكويني، وأن لا يكون ظرفه بقدر ما هو مجمل ظرف من يعبر عنهم، من أتى من بينهم أو انتقاهم ليصير ظرفه ضمن جوهر ظرفيتهم، هو المحرك المحرض أكثر مما هو القبلة/المحطة النهائية. هنا يمكن لناظم حكمت أو رسول حمزتوف، أيضًا إمبرتو أكابال التدخل إن اتسعت أوقاتهم أثناء تشييع رفاقهم.
الحكم النعيمي برفضه ثنائية الغزو الإمبريالي والاستبداد، كما يحيى حسن في تخريبه التقويضي للتنميط والحشر الاستعلائي لأصحاب البشرة المغايرة بكامل طبقاتها أو إحداهن، قد حضرا بموتهما إلى حفل دون جمهور ولا تتويجات مسبقة الدفع ليلقيا عتاد حرب لا يمتلك أحد أن يبعث من الطمأنينة في شيء لهما بشأنها، باستمرار مشهدية "خمسة أطفال مصطفون وأبٌ بهراوةٍ" بعين يحيى حسن و" قطاع غزة تحت الشمس"، كما "هي الموانيْ تحضر طهر قبورنا" باستمرار مألوف غير مطبع معه ولصالحه على رأس ريشة الحكم النعيمي، الشاهد على "حرب العشق الجديد ضد الأنبياء والمضي وحيدًا مقدار اغتراب ونيف".
اقرأ/ي أيضًا: