يتحدث جبرا إبراهيم جبرا (1920- 1994) في كتابه "البئر الأولى" عن سنوات حياته الاثنتي عشرة الأولى، التي قضاها بين مدينتي بيت لحم والقدس، وهو يعرض في حديثه عن ذكرياته لحياة الناس في فلسطين في العقد الثالث والرابع من القرن الماضي، وقد خص بالذكر حياة المسيحيين وطبيعة معيشتهم، والطقوس التي يقومون بها طوال أيام السنة.
يتحدث جبرا إبراهيم جبرا في كتابه "البئر الأولى" عن سنوات حياته الاثنتي عشرة الأولى
يمكن القول إنّ جبرا في هذا الكتاب سعى إلى تدوين ذكريات طفولته ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، فيعدّ هذا الكتاب سيرة للطفولة، وهي أيضًا سيرة لمدن حاول الاحتلال محوها وقتلها، وما يزال يحاول. وهو في أسلوبه المسهب والطفولي والبريء كأنه يريد من القارئ أن يركض ويحلم ويبكي ويتألم معه في دروب بيت لحم والقدس، وعلى بنوك المدرسة وعتباتها وأمام عصا المعلم وخبز الأم ومشاغبة الطفولة، وما إلى ذلك من ذكر لـ"شيطنة الطفولة" كما يقال عنها.
اقرأ/ي أيضًا: "صديقتي المذهلة": فندق فقراء نابولي
وفي صفحات هذا الكتاب الأولى، بدأ جبرا حديثه عن بيت لحم، وحاراتها، وزقاقها، ومحلاتها، حيث كانوا يقطنون بداية حياتهم في حارة تسمى "الخشاشي"، وهي حارة بسيطة كما يصفها في كتابه، وكانت جدتهم تقطن معهم، وكان يكنّ لها من المحبة الكثير، فهي كانت تدافع عنه عندما كانت أمه تريد أن تعاقبه على خطأ يرتكبه. يبدأ جبرا بسرد سيرته بطريقة دقيقة، متوقفًا عند الأماكن، وأسماء الأشخاص، وذكر صفاتهم، وأكثر ما يتميزون به، وتطرق في سيرته إلى الحديث عن اليسوع والسيدة العذراء، وذكر أن اليسوع كان فقيرًا معدمًا، فيقول إنّ اليسوع قد ولد في مغارة، وكان البرد قارسًا، وتحدث عن أمه كيف وضعته في الغطاء ليدفأ، وهو كما هم الآن كان يمشي حافيًا، وبثياب ممزقة، ولكنه يعزي نفسه بقوله إنه يجب عليه الاقتداء به، وطوبى للفقراء لأنهم سيرثون الجنة؛ أي كأن جبرا كان يتذمر من فقره، فهو لا يملك الثياب والمأكل، ولكنه يستذكر اليسوع فتهون عليه مصيبته.
وتحدّث أيضًا عن الصيام والمعاناة التي كانوا يعانونها جراء حرمانهم عن اللحوم والبيض والزفر لمدة معينة، وكان هذا له ولإخوته أمرًا صعبًا جدًا. يسهب في ذكرياته ومغامراته مع إخوته وأصدقائه في الحارة، وما كانوا يحدثونه من شغب ومقالب مضحكة مع أصدقائهم ووالدته وجدته، وكان مداومًا على الذهاب إلى الصلوات بشكل دائم، ولم يكن لديه أي غياب على الإطلاق، ولذلك كافأه الأب الذي في الكنيسة "بحذاء أصلي وغالي الثمن" ففرح آنذاك فرحًا لا مثيل له، ولكن هذه الفرحة لم تدم طويلًا، لأن والدته اقترحت عليه بعد عودته إلى البيت أن تبيعه ليوفروا ثمنه للعيد لتلبية احتياجاتهم، فما كان منه إلا أن قبل بذلك الاقتراح صاغرًا لمعرفته بظروف العائلة في ذلك الوقت، ووعدته أمه مقابل ذلك أن تأخذه إلى القدس وتشتري له بدلًا منه حذاء جيدًا، وكان هذا سببًا وراء زيارته للقدس لأول مرة، وفي هذه الزيارة وصف جبرا القدس بقوله بأنها مدينة رائعة، جذبت نظره، وسلبت عقله، ولكن هذه الزيارة لم تكن طويلة، فقد رجعوا باليوم ذاته.
ثمّ يعرّج على عيد الميلاد الأورثوذكسي، عن الطقوس التي تقام في ذلك العيد، وعرض أسماء الحلويات التي كانت تقدم حينها ومنها: الحلاوة البيضاء، الغريبة، والمعمول، والسمسمية. وقد وصف طقوس يوم العيد عند العائلة، وكيف كانوا يقضونه رغم الفقر والبؤس الذي كانوا يعانون منه. ومن الشخصيات التي كان لها أثر في نفسه وعلى طفولته شخصية نعوم، وهو رجل على البركة، يقوم بحركات مضحكة، ونهفات تضفي على الأشخاص والمكان الحيوية والنشاط، وهو في حديثه عن ذلك تشعر وكأنه يضحك، وكله حنين وشوق لتلك الأيام.
في عام 1927 ذكر الزلزال الذي حصل في فلسطين، وكان أشده في نابلس
وتتوالى صفحات هذا الكتاب، ويذكر فيها انتقاله هو والعائلة إلى بيت جديد في "حوش دبدوب"، في بيت لحم، وتحدث عن السيرك الذي كان يقام في هذه الحارة، وذكر القبة، قبة راحيل، وهي معلم بارز من معالم بيت لحم، وكانت تمثّل له الحد الفاصل بين المعلوم والمجهول.
اقرأ/ي أيضًا: تعرف إلى 4 رؤساء من العالم كتبوا أدبًا خالدًا
وفي عام 1927 ذكر الزلزال الذي حصل في فلسطين، وكان أشده في نابلس، وفي ذلك الوقت قام البطريرك إلياس الثالث بزيارة إلى بيت لحم، وزار المدرسة التي كان فيها، ودخل إلى صفهم وتحدث معهم، وكان ذلك حدثًا مهمًا في حياته كما ذكر في كتابه. ويذكر أنّه اتفق هو وأولاد الحارة بأن يقوموا بزيارة القدس، وكانت هذه الزيارة الثانية له، ولكن هذه المرة كانت أطول لأنها كانت مشيًا على الأقدام، وأخذ يصف لنا الزقاق والحارات التي مروا بها، وقد شاهد مئذنة النبي داوود، وبركة السلطان، وتحدث عن أسوار المدينة القديمة بكل شغف، وصعوده باب الخليل، ولكن لم يسهب بذكر ذلك. وعندما وصلوا إلى القدس ذهب إلى الدير، وأعجب بالكنيسة إعجابًا كبيرًا، وأخذ يصفها، ويصف هيكلها، وقناديلها، وشمعداناتها الضخمة، ولوحاتها المعلقة على الجدران، وتحدث عن مشاركته في خدمة القداس، وهو في ذلك في غاية الاستمتاع والفرحة.
ومن الأمور التي كانت تؤثر فيه الحكايات التي كان يرويها لهم والده، فكان لها أثر في تشكيل مفاهيم العدالة الاجتماعية، والخير والشر، ودور المال في الإفساد، ويصبح أبوه النموذج للصدق والقناعة وعمل الخير وحب الآخرين، وقد أطال في حديثه عن هذه الحكايات في صفحات كتابه. وبعد ذلك يحدثنا عن دخوله في المدرسة الوطنية، وكان حينها في الصف الثالث، فتحدث عن الأيام الأولى له في المدرسة، وعن الأصدقاء الذين تعرف عليهم، وذكر بأن الطلاب كانوا من بلدات مختلفة؛ ولذلك كانت لهجاتهم مختلفة، وذكر بعضا من هذه اللهجات: التلاحمة وهي لهجة بيت لحم، والسواحرة وهي لهجة بيت ساحور، والبجاجلة وهي لهجة بيت جالا، والخلايلة في الخليل، والفواغرة والتعامرة في بيت فاغور وبني تعمر.
وذكر بأن المدرسة كانت تضم المسيحي والمسلم، وتعد المدرسة الوطنية نقطة تحول في حياة جبرا، لأنها أتاحت له فرصة التعارف على أصدقاء من أجناس مختلفة، مما فتح له باب الاطلاع على الثقافات الأخرى. ثمّ يتوقّف على مرض أبيه، فقد أصيب بمرض "عرق النسا"، مما زاد من الأعباء على الأسرة، وقلت الموارد لديهم، فقرر ترك المدرسة لمساعدة أهله، ولكنّ أهله قابلوا ذلك بالرفض الشديد، لأن والده يحب العلم كثيرًا، وذكر له بأن الله قد ذكر القراءة بالإنجيل وحث عليها.
يتحدث جبرا في سيرته عن أسماء العائلات وتنوعها بين أسماء الحيوانات أو الطيور أو الفواكه
وحدثنا في هذه السيرة عن أسماء العائلات وتنوعها، فمنها على اسم الحيوانات أو الطيور أو الفواكه، أو الحِرف، وتحدث عن دار الخبز وهو معنى الاسم الآرامي القديم لـ بيت لحم.
اقرأ/ي أيضًا: حنان الشيخ.. الكتابة بين الضباب
في عام 1932 انتقل هو وعائلته إلى القدس، وفيها انتقل إلى المدرسة الرشيدية في القدس، وتعرف على أصدقاء جدد، وتعلق بها كثيرًا، وتحدث عن الحي الجديد جورة العناب، ووصف البيت الجديد وصفًا دقيقًا.
البئر الأولى كتاب سيرة، يتركز كله في فترة الطفولة، كتبه جبرا وهو مقيم في العراق، وكان يهدف جبرا من كتابه هذا إلى تأكيد هويته الفلسطينية عن طريق استرجاع طفولته في بيت لحم، ومساهمة منه في ترميم الذاكرة الفلسطينية المشتتة، وليؤكد أن نشأته في ظروف قاسية وصعبة لم تفت في عضده، بل كانت محفزًا لنجاحه العلمي والأدبي.
الحياة لجبرا هي سلسلة آبار، لكنّ البئر الأولى هي الأهم، وهي الأغنى، لأنّ التجارب فيها تتجمع، والرؤى والأصوات بأفراحها وأحزانها، وكل ما يأتي بعدها يتفاعل معها، ويساعد صاحبها على تطوير مفاهيمه للحياة وتكيفه معها. وفي هذا الكتاب، يتميز جبرا بجمالية، وحس أدبي وأسلوب رائع في السرد، فهو في أسلوبه يجعلك تشعر وكأنك تحضر فيلمًا سينمائيًا مصورًا تتابع أحداثه دقيقة بدقيقة من غير الشعور بالملل.
بالإضافة إلى تفنّنه في بيان جمالية المكان في الرواية، فقد تجلّى الكاتب فشكل لنا صورة للطبيعة، للبيوت، للكنائس، والدير، للمدارس وللحياة الاجتماعية والثقافية في بيت لحم، وركز تركيزًا كبيرًا على وصف الحياة الدينية، وخاصة ديانته المسيحية فكان هناك الكثير عن الديانة المسيحية والكنائس والأديرة، وعن أعيادهم وعن صيامهم وصلاتهم. لكن في هذا الكتاب لم يتطرق إلى ذكر القدس كثيرًا، إلا عندما التحق بالمدرسة الرشيدية في القدس، وكان قد أشار إليها إشارة سريعة في زيارته الأولى.
اقرأ/ي أيضًا: