الحركات الاستعراضية المدعومة بدعاية تُجيش المشاعر وتلهب الصدور، هي أمرٌ لطالما عرفه تاريخ منطقتنا. الوحدة السورية المصرية مثلًا، وخطابات عبد الناصر وصدام والقذافي والأسد. ولم تكن أوروبا بعيدة عن ذلك، حيث صعود النازية والفاشية، وخطابات هتلر وموسوليني. لكن يذهب الثلج ويظهر التراب، وتذهب الفرحة وياتي الواقع، فإذ بنا في مواجهة ديكتاتوريات جديدة تحقق مطامع نخبة سياسية أو حزبية فحسب، وتدوس شعوبها قمعًا وفقرًا، وتجرها إلى حروب ومجازر وتهجير.
الدعاية المجيشة للمشاعر والملهبة للصدور أمر لطالما عرفته المنطقة، لكنها سرعان ما تكشف عن ديكتاتوريات جديدة ومطامع سياسية وحزبية
وعلى الرغم من معارضة أقلية من الكرد العراقيين لتوقيت الاستفتاء، وامتناع آخرين عن التصويت بنعم (7%)، فقد ذهب كرد العراق إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في استفتاء الانفصال عن العراق الذي تقول السلطات الكردية إنه نال موافقة حوالي 93%. ولطالما كان حلم الدولة الكردية يداعب خيال إخوتنا الكرد، فهو المطلب الأول عبر تاريخهم المعاصر. وزاد تعلقهم بحلم الدولة بعد نشوء الدول العربية وتأسيس الدولتين التركية والإيرانية.
اقرأ/ي أيضًا: تقدير موقف: استفتاء إقليم كردستان.. بين الإصرار الكردي والمعارضة الإقليمية
لكن، ماذا عن البرزاني المنتهية ولايته منذ سنتين، والذي طَرد بعضًا من أعضاء البرلمان بسبب رفضهم تمديد ولايته، ومنَعهم من دخول أربيل، الأمر الذي أوقف عمل البرلمان؟!
الحلم الكردي بتأسيس دولة مستقلة في العراق، يعود لنحو 100 عام خلت. لكن اتفاقية سايكس بيكو التي قسمت جيرانهم العرب إلى دول متناحرة، حرمت الأكراد من هذا الأمر، أي الدولة أو الدول. فلا يعتد أحد أن الأكراد لديهم مُشكلة في الحصول على دول كردية متعددة بدلًا من دولة واحدة، وهو ما يُمكن أن تذهب إليه مجريات الأمور في المستقبل.
لكن السؤال الأكثر إثارة هو: لماذا تسعى بعض الشعوب أو الجماعات أو الإثنيات أو الطوائف، للانفصال عن دولٍ وأوطان عاشت ضمنها عقودًا وربما قرونًا، بغية الفوز بكيانات وحدود خاصة، في الوقت الذي تشهد فيه قارات العالم، سعي دولٍ كبرى وقوية للتقارب مع دول أخرى من قوميات مختلفة وأديان وثقافات متباعدة، في أحلاف مُشتركة يُذيب بعضها الحدود؟!
لعل الجواب على هذا السؤال ليس سهلًا، لكن مع ذلك سنفترض أنه بالنسبة للأكراد، ثمة عوامل دفعتهم منذ نحو قرن على الأقل، للمطالبة بالاستقلال عن الدول التي يتواجدون فيها، لاسيّما تركيا وإيران والعراق. أول هذه العوامل، هو شعور الأكراد بالغُبن من قسمة سايكس بيكو كما أسلفنا، وثانيها عدم الاعتراف بهم وثقافتهم ولغتهم من قبل الدول التي يعيشون فيها. أما ثالث هذه العوامل، فهو في اعتقادي، تعرض الأكراد للتهميش الاقتصادي والسياسي والثقافي، في أحيان كثيرة، تعرضهم للظلم كباقي شعوب المنطقة التي تتعرض لظلم حكامها.
إن كان من درْس لاستخلاصه من استفتاء كردستان العراق، فهو أن الفاشية لا يمكن أن تكون حلًا أو أسلوبًا لمواجهة مطالب الشعوب
هذه العوامل الثلاثة أظهرت عند الكرد مظلومية شبه متكاملة، وجعلت أبناء هذه الإثنية يتقاربون كأبناء أرياف وأطراف مهمشين وفقراء، رغم أن لغتهم ليست واحدة، فالمنع وعدم الاعتراف هما من أقوى عوامل الاتحاد.
اقرأ/ي أيضًا: حلم كردي يتحقق أم انتحار؟
إن كان من درْس يمكن استخلاصه من استفتاء كردستان العراق، فهو أن الفاشية لا يمكن أن تكون حلًا أو أسلوبًا لمواجهة مطالب الشعوب أو الإثنيات المختلفة. وأن كل عصبية ستقابلها عصبيات أشد منها وأمرّ، إذ لولا فاشية حزب البعث وصدام حسين، ولولا سوء إدارة وأداء حكومة حيدر العبادي، لما اندفع أكراد العراق للمطالبة بالانفصال، فقد كان الكرد العراقيون يعيشون في مناطقهم بسلام طوال نحو عشرين عامًا، ولولا عنصرية وغباء الحكومة العراقية، لما اندفع كرد العراق لإجراء استفتاء بهذا التصميم، رغم ممانعة ورفض الجوار والمجتمع الدولي عمومًا.
لم تأت الأيديولوجيا القومية إلا بالخيال لشعوب اعتنقتها بالإكراه المعنوي أو التضليل، أو أُجبرت على الخضوع لها بالإكراه المادي والعنف.
من حق الشعوب أن تختار ما ترغب به، لكن كي يتحقق ما ترغب به الشعوب وتختاره، يجب ألا تخسر في المقابل ما هو أهم من الرغبة والحق، أن تخسر الحرية والكرامة ولقمة العيش. وهذا لا يكون إلا حين تكون تلك الشعوب واعية عبر نخبها لما هو قادم، ولا يكون إلا حين تتوفر تلك النخب على رؤية وبرنامج، فلا أحد ضد الحق أو الحقيقة، سوى تلك الأقلية الحاكمة التي تستغلها وتبيع شعوبها أوهامًا وأكاذيب. إن دولة الشعب والحق، لا يصنعها حكام الشعب، بل الشعب نفسه.
لن يعرف الشرق العربي والكردي والفارسي والتركي، الاستقرار والحرية والتنمية، في ظل وجود ديكتاتوريات حاكمة
هذا الشرق العربي الكردي الفارسي التركي، لن يعرف الاستقرار والحرية والتنمية، بوجود ديكتاتوريات مطوبة أو وليدة، ولا بد من نهج مختلف للوصول إلى هذه الغاية الثلاثية: استقرار وتنمية وحرية، يتمثل بتحالف بين النخب الحرة التقدمية لهذه الشعوب الأربعة، وطرح بديل عن النزعات القومجية الفاشية، يتمثل برابطة جامعة لهذه الشعوب، رابطة أخوة وتعايش وتعاون اقتصادي أو سوق اقتصادي، فالاقتصاد والتنمية هما بمثابة الحل السحري لكل مشاكل هذا الشرق، التاريخية والثقافية والسياسية.
اقرأ/ي أيضًا: