احتفت تونس بتاريخ 20 مارس/آذار بالذكرى الحادية والستين للاستقلال، ولم يكن الاحتفاء هذه السنة مختلفًا عن السنوات الفارطة، برود شعبي، وبروتوكولات رسمية تقليدية ترافقت هذه السنة مع تدشين أكبر علم في البلاد. بالنهاية، هذه المبادرة جميلة بتدشين علم ضخم في العاصمة يطل على ضواحيها، ولكنها تعكس بهرجًا لا يتلائم مع السياق الاقتصادي الصعب للبلاد.
أن تدعو الحكومة للتقشف، وتعتمد سياسات مالية تقوم على الاقتصاد في المصاريف، ثم تسارع لخياطة علم ضخم بمصاريف باهظة، فهذا من باب التناقض.
الحركات الفلكلورية بمناسبة الأعياد الوطنية زادت سلبيتها بالوعي الشعبي لأنها أفرغت الأعياد من مضامينها، حتى باتت مناسبات ثقيلة
أي رسالة يتلقاها المواطن؟ إن المثير للغرابة كذلك هو أن تقع خياطة العلم في تركيا، في حين أن تونس واحدة من أهم مصدّري قطاع النسيج في المنطقة.
نحن أمام حكومة تروّج لسوق منافسة في قطاع استراتيجي. فأي رسالة للحرفاء المورّدين للنسيج في العالم؟ بتجاوز ذلك، لا يبدو من المستساغ على المستوى الرمزي أن تقع خياطة العلم، وهو الرمز الأساسي للدولة، لدى دولة أخرى.
اقرأ/ي أيضًا: 6 سنوات في مسار ثورة تونس.. تحديات تنموية حارقة
هذه الحركات الفلكلورية بمناسبة الأعياد الوطنية زادت سلبيتها في الوعي الشعبي العام، لأنها أفرغت الأعياد من مضامينها، حتى باتت حاليًا مناسبات ثقيلة. ولعل الغنيمة الوحيدة لدى المواطن هي الظفر بيوم عطلة مدفوع الأجر.
ربما هذه ليست حالة تونسية صرفة، بل تنسحب على بقية البلدان العربية. وربما مما زاد في إفراغ هذه المناسبات من ثقلها هو تناقض مضمونها مع الواقع المعاش. الحديث عن "نصر" أكتوبر في مصر كل سنة بات سخيفًا، فلم يعد 6 أكتوبر إلا مناسبة لاستعراض الجيش المصري بطولات وعلى فرض يقينها فقد تم التفريط في نتائجها في أقل الأحوال.
في هذا الجانب، يوجد حكم سابق من المحكمة الإدارية لا يركن إلا من باب الطرافة أو البؤس في آن، وهو يتعلق بطلب مواطن الحصول على نسخة من وثيقة الاستقلال، فردّت المحكمة بعدم إمكانية الاستجابة للطلب لعدم وجود الوثيقة المطلوبة لدى مصالح رئاسة الحكومة.
فقد بات عيد الاستقلال في تونس مناسبة دائمة لطرح أسئلة، هل تونس مستقلة فعلًا؟ على تملك تونس سيادتها بكل الميادين؟ ألم يكن بروتوكول الاستقلال سنة 56 مجرّد فك ترابط شكلي لاستعمار لا يزال مخفيًا؟
ولعلّ أهم محاسن الثورة، من جملة محاسنها الجمّة، بأنها حرّرت الفضاء العامّ واسترجعت الحريات المصادرة للمواطنين، ليصبح طرح هذه الأسئلة ليس مجرّمًا وموجبًا للعقوبة بتهم "المسّ من المقدّسات".
يذهب تيار لتبنّي الرواية الرسمية للتاريخ وهي رواية الدّولة التي تتغنّى بالبطولات والأمجاد والنصر المبين، وتحصر نيل الاستقلال في "المجاهد الأكبر" الحبيب بورقيبة، فيما يذهب تيار آخر للتشكيك المطلق في الاستقلال ويتحدث عن الاحتلال المستمرّ والمؤامرة وعملاء الاستعمار.
وعلى الرغم من أن هذين التيارين على طرفي نقيض مضمونًا، فإنهما يشتركان في اعتبار كل منهما بأن روايته هي التاريخ "الحقيقي"، كما يشتركان في شيطنة كل منهما للآخر.
اقرأ/ي أيضًا: الحكواتي في تونس.. فن منسي يتجدد
غير أن الشجاعة المطلوبة اليوم من كل تيار هو إعادة قراءة التاريخ بعيدًا عن الحمولة الأيديولوجية والأحقاد المتوارثة عبر الأجيال. بعد زهاء ستة عقود من توقيع بروتوكول الاستقلال، حان الوقت ليفتح التونسيون هذه الصفحة بكل جرأة، ومن المهمّ إعادة كتاب التاريخ بخصوص هذه الفترة من تاريخ البلاد بإنصاف.
بات عيد الاستقلال في تونس مناسبة دائمة لطرح أسئلة، هل تونس مستقلة فعلًا؟ على تملك تونس سيادتها بكل الميادين؟
فمن جملة انتهاكات نظام الاستبداد زهاء نصف قرن هو تزييف التاريخ وتزوير الحقائق وإخراجها من سياقها وتوظيفها لبناء رواية تنتصر للبروباغندا.
إن الاطلاع على الكتب المدرسية في مادة التاريخ في محور التاريخ المعاصر تحديدًا يكشف عن هذه البروباغندا، ومن صورها تهميش دور المقاومة المسلحة في اجبار الفرنسيين على الخروج من تونس لحساب دور القيادة السياسية بزعامة بورقيبة مع إقصاء يصل لحد التخوين لشق صالح بن يوسف وهو أمين عام الحزب الدستوري الذي قاد معركة الاستقلال، قبل أن يقع عزله واغتياله لاحقًا. ومن صور الرواية المتداولة الحديث عن "أسطورة" الدولة الوطنية و"تخوين" المعارضين وقمع الحركات الشعبية الاحتجاجية، وتصوير الزعيم بموضع "المتآمر" عليه.
نحن بحاجة لتنقية التاريخ الذي ندرّسه لأبنائنا من شوائب رواية تاريخية لا يجب إقصاؤها ولكن يجب التدقيق فيها بكل موضوعية وإنصاف، ويجب أن نردّ الاعتبار لمن لم ينصفهم كاتبو الرواية الرسمية وذلك من أجل ذاكرة وطنية جماعية نقيّة.
اقرأ/ي أيضًا: