في خضم ما يمكن تسميته بالهجوم المُضلل ما بين الحين والآخر على مفاهيم مثل "الاشتراكية" و"النسوية"، تحاول الكاتبة السودانية البريطانية نسرين مالك الإجابة على سؤال أوّلي: "ما معنى أن تكون اشتراكيًا؟"، وصولًا لإجابة سؤال آخر مبني على الأول: "هل يمكن أن تكون اشتراكيًا وغنيًا في نفس الوقت؟"، وذلك في مقال نُشر بصحيفة الغارديان البريطانية، ننقله لكم مترجمًا في السطور التالية.
في منتصف القرن العشرين، بدأت حركة اشتراكية بالبزوغ في العديد من أجزاء أفريقيا المستعمَرة، وفي العالم العربي. وبشكل عام، كان الهدف من هذه الحركة في العالم العربي تحديدًا، هو التحرر من خلال مقاومة الإمبريالية، والإطاحة بالطبقات الحاكمة، والنضال من أجل العدالة الاجتماعية. واعتُبر المُركَّب السوسيواقتصادي، على الرغم من أهميته، جزءًا صغيرًا من قضايا أعظم شأنًا مثل القومية والتحرر من أسياد الاستعمار والنخب المحلية التابعة لها.
كان الجانب الأكثر جذرية في الشيوعية العربية هو التزامها بالعلمانية، حتى بات الارتباط الأساسي بين كلمتي "شيوعي" و"ملحد"!
ورغم نجاحها في تعبئة قطاعات واسعة ومختلفة من المجتمع، لكنها تعرضت لنقد لاذع من قبل الأيديولوجيات الاشتراكية، بسبب عدم التزامها الحرفي بمفاهيم الأفكار الاشتراكية، حيث لم تكن تلك الدول قد وصلت إلى مستوى التصنيع والاستغلال الرأسمالي الذي تطلبته المادية الديالكتيكية.
اقرأ/ي أيضًا: مصنع الفكر المشوّه.. ومستقر التطرّف الفظيع
دأب المحافظون كذلك على تشويه سمعة الاشتراكيين باعتبارهم نخبة مخربة. وكان الجانب الأكثر جذرية في الشيوعية العربية، هو التزامها بالعلمانية. وأصبح هذا الأمر أكثر المداخل فعالية لنزع الشرعية عن الأحزاب الاشتراكية، حيث أصبحت كلمة "شيوعي" مساوية لـ"ملحد"، وبالتالي "كافر". وكانت هذه طريقة ناجحة لتشويه سمعة أحدهم إلى درجة أنه لم يكن من الممكن أن تكون اشتراكيًا دون أن يكون دينك موضع تساؤل!
على جانب آخر، نسمع عبارة "اشتراكيو الشمبانيا"، دلالةً على الاشتراكي الغني. فتمامًا مثلما أنه بالإمكان وجود اشتراكي عربي ولا يكون ملحدًا متعصبًا، من الممكن أيضًا أن يكون هناك اشتراكي غني، أو على الأقل مرتاح من الناحية المادية.
وبنفس الطريقة التي ألصقت بها الاشتراكية بـ"الكُفر"، تعمل الرؤية القائلة بأن الاشتراكية شيء لا يهم سوى الفقراء والمحرومين، على نزع الشرعية عن الحركات الاشتراكية وتشويه سمعتها من قِبل من هم ليسو فقراء حقًا، وذلك عبر تصويرهم على أنهم منافقون يدعون الفضيلة.
الرؤية التي تقضي بأنه لا يمكن أن تتحلى بالقيم الاشتراكية دون أن ترتدي ملبسًا خشنًا غليظًا، وأن تجلد ذاتك كلما اشتريت لاتيه، اشتراكيو اللاتيه هو التعبير الحديث بدلًا من اشتراكيي الشمبانيا، هو مجرد عبث. فلهذه الرؤية غرض واضح، وهو تقويض القيم الاشتراكية عبر مطالبتها بالمستحيل، وهو أن تتقيد أفعال المرء بقناعاته السياسية طوال الوقت.
سيكون الأمر أشبه بمهاجمة الرأسماليين لأنهم يتصدقون بأموالهم. تخيل أن لا يتم التدقيق في أسعار ممتلكات السياسيين اليساريين ومصروفات المدارس الخاصة لأبنائهم فقط، بل أن يتم إرسال مصورين بعدسات طويلة لالتقاط صور مثيرة للنواب المحافظين وهم يلقون خلسة بعض القطع النقدية في صحن متسول في الشارع. تخيل عنوانًا رئيسيًا في الصحف يقول: "بالصور.. سياسيون محافظون يتصدقون بأموالك". هذا أمر لا يحدث!
بالتأكيد "اشتراكيو اللاتيه" مزعجون حقًا. كلنا نعرف واحدًا منهم. أولئك الذين يفضلون كتابة تغريدة عن المشردين بدلًا من التبرع لملجئ يؤويهم أو القيام بالأعمال التطوعية. أولئك الذين تمثل الاشتراكية بالنسبة لهم صفة شخصية، إلى جانب الوشم وسَنة الفراغ التي يُدرسون فيها الأطفال الملونين لاستخدامها كصور شخصية على فيسبوك. لكن ليس لأن ثروتهم تمنعهم من تشرب القيم الاشتراكية ولو ظاهريًا، بل لأنهم نرجسيون.
لكن الاشتراكية لا تحثكر على التبرع بأموالك أو السعي للثروة. بل هي في صميمها تدعو لجعل الحياة أكثر عدلًا، وتواجه العيوب البنيوية التي تجعل النظام يميل لمحاباة القلّة. ولا تعني الاشتراكية القضاء على الفرد والفردانية، كأنه فصيلة معرضة لخطر الانقراض بحاجة للحماية من وجهة نظر المحافظين.
الاشتراكية في صميمها تدعو لجعل الحياة أكثر عدلًا، وتواجه العيوب البنيوية التي تجعل النظام ميّالًا لمحاباة القلة
يمقت اليمينيون كل ما هو جمعي إلى درجة أن فضيحة ويندروش يمكن إلصاقها بالاشتراكية، في ليٍّ مذهل لعنق الحقائق من قبل السياسي البريطاني جايكوب ريس موج، الذي قال: "لم تظهر مشكلة ويندروش إلا بسبب محاباة الدولة للمصالح الجمعية على حساب الأفراد الذين جاءوا إلى هنا بصفة قانونية تمامًا قبل 1973، وكان من الأجدر على وزارة الداخلية دفعهم لإثبات هوياتهم وإظهار أوراقهم. هذه اشتراكية." وفقًا لهذا التعريف، فإن الوقوف في الصف وانتظار دورك، هو اشتراكية أيضًا!
اقرأ/ي أيضًا: المانيفستو في ضيافة القرن 21
عندما تدقق في مدى صحة الأمر، فإن الاعتناء بالمصلحة الجماعية متجذر في النهاية في مصلحة الفرد الذاتية. المجتمع الذي يصل فيه انعدام المساواة إلى مستويات متطرفة لا يمكن حكمه وإدارته بكفاءة. فكر في جنوب أفريقيا ما بعد نظام الأبارتهايد. حيث اضطرت العائلات البيضاء لبناء حصون ومجمعات سكنية لحماية أنفسهم من السكان ذوي البشرة السمراء "المتوحشين" الذين أُطلقوا من قيود الأبارتهايد "الضرورية"! ولم يخطر ببال هؤلاء الأغنياء أن الأبارتهايد هو ما خلق الخطر، وأنه خلق مجتمعين منفصلين غير متساويين لدرجة أن الصراع وإعادة توزيع الثروة بطريقة القوة يصبح أمرًا لا مفر منه!
حين تمنع قطاعات كبيرة من المجتمع من التوظيف أو تحرمهم من شبكات الأمان التي توفر لهم الرعاية الصحية الأساسية والملجأ والغذاء؛ تبدأ الأمور في الانهيار. هذا ليس مبررًا للسرقة، لكن احتكار الموارد وتوقع تحمل الفقراء للجوع بكرامة مستسلمة أمر غير واقعي.
مع ذلك، دائمًا ما يُتهم الاشتراكيون بأنهم غير واقعيين، أو أنهم لا يفسحون مجالًا كافيًا للطبيعة البشرية. ولعدم فهمهم أن المال يجب أن يأتي من مكان ما، وأشياء مثل: "لا أراك يا مدعي الفضيلة، الذي ألمح أنك تحمل هاتفًا ذكيًا باهظ الثمن، تتبرع بمالك الخاص. أتسمي نفسك اشتراكًيا؟".
أجل، أسمي نفسي اشتراكيًا. بطريقة ما يشبه السؤال عن إمكانية أن يكون المرء اشتراكيًا وغنيًا في الوقت ذاته، السؤال عن إمكانية أن تكون المرأة نسوية وربة منزل.
إن الإيمان بقيم سياسية واجتماعية لا يعني أن تعيش حياتك كراهب تمنح كل لحظة من حياتك للقضية. لكن يعني أنه يجب أن تكون هناك طرق للتقدم نحو الهدف النهائي للنسوية أو الاشتراكية، وهو دفع قضية المساواة قدمًا إلى الأمام. لا يهم إن كانت هذه الجهود ضئيلة أو غير متسقة أو متنافرة مع طريقتك في الحياة بالنسبة للعين المجردة، طالما ظل هناك ضغط مستمر على الهياكل الاجتماعية للتقدم في الاتجاه الصحيح.
بازدراء بيّن، يقول المؤرخ برنارد لويس: "لا يبدو أن أحدًا لديه ما يمتدح به الاشتراكية العربية. يقدم أرباب التجارة والمهن وأفراد الطبقة الوسطى، ضدها، الشكاوى المعتادة التي تقدم ضد الاشتراكية في الدول الغربية، بينما ينظر اليساريون للاشتراكية العربية بازدراء باعتبارها تقدم حلولًا فاترة وغير فعالة لا تتحلى لا بروح الاشتراكية ولا الرأسمالية".
الإيمان بقيم ما، لا يعني أن تعيش كالرهبان تمنح كل لحظة من حياتك لأجل القضية، وإنما عليك إيجاد طريقة لتدفع بقضيتك قدمًا إلى الأمام
لكن الحركة قدمت مجموعة قوية من النشطاء المعارضين للاستعمار والسياسيين في مرحلة ما بعد الاستقلال، الذين برغم عدم اتساقهم الأيديولوجي ونشأتهم بين النخبة، أسهموا بشكل متزايد في حركة التحرر. كما أنهم شربوا القهوة باستمرار في المقاهي الشعبية، حيث وُصفوا من قبل أعدائهم في المؤسسة السياسية بأنهم مرفهون يمضون وقت فراغهم، ولا يقدمون سوى نقد وعظي فارغ. لذا امض قدمًا واشتر كوب اللاتيه ذاك: فأنت بشكل أو بآخر جزء من تقليد نبيل!
اقرأ/ي أيضًا: