مرّت قبل أيام سبع سنوات على انخراطي في "فيسبوك"، بكلّ ما يثمره هذه الانخراط من انزياحات في التفكير والسّلوك، وقد أقمت حفل عشاء افتراضيًا، انسجامة مع طبيعة الفضاء، دعوت فيه نخبة من الأصدقاء، تبادلنا فيه صور الأكل والشراب عن بعد، ورقصنا وضحكنا وأكلنا لحم الحكومة والشّعب والمثقفين معًا، ثم انتبهنا إلى عوراتنا نحن أيضًا، فشرعنا في الدردشة بخصوصها. ماذا لو يقتفي "فيسبوك" أثر "ويكيليكس"، فيجعل رصيده من دردشات العالم فيه في متناول القراءة والمشاهدة؟
ماذا لو يقتفي "فيسبوك" أثر "ويكيليكس"، فيجعل رصيده من دردشات العالم فيه في متناول القراءة والمشاهدة؟
في البداية كنت رافضًا لفتح حساب، لأسباب تتحكّم في معظمها الأحكام المسبقة، منها أن فيسبوك مضيعة للوقت وحرق للأعصاب وتمييع للهيبة، لكن تفكيري في شنّ إضراب عن الطعام يوم 3 أيّار/مايو من عام 2010، احتجاجًا على تعسّف مؤسسة التلفزيون الجزائري في حقي جعلني أقدم على ذلك، بحثًا عن نافذة إضافية لمساندة قضيتي. ورغم أن قائمة الأصدقاء يومها كانت لا تتعدى 500 إلا أن الدور الذي لعبه "فيسبوك" في مساندتي كان حاسمًا، ممّا جعلني أكتب يومها أن هذه الوسيلة ستحرّر العلاقات وتغيّر مفهوم الوساطة وتمنح الرّأي العام سلطة أكبر، وهذا ما يحدث هذه الأيام، إذ باتت السلطات الجزائرية تخضع لإرادة "الفسابكة" أكثر من خضوعها للأحزاب المعارضة.
اقرأ/ي أيضًا: الشتائم على الفيسبوك.. أحّا!
بفضل "فيسبوك" استرجعت كثيرًا من علاقات الطفولة والدّراسة والجامعة، واكتسبت صداقاتٍ جديدة تحوّل كثير منها إلى علاقات واقعية عميقة جدًّا، بحيث صارت لي في كل بقعة أذهب إليها في الجزائر والخارج فرص جاهزة لمرافقتي. كما يلعب "فيسبوك" دورًا رائعًا في طبخ مواضيعي الصحفية التي أنجزها لمواقع وجرائد عربية، منها "الترا صوت"، إذ لا يتطلب الواحد منها بفضل ذلك أكثر من ساعة واحدة.
قمت بحظر العشرات لسبب واحد لا غير هو الوقاحة، فأنا أقدّس حرية الآخرين ولا تزعجني آراؤهم في شخصي وتفكيري وسلوكي، لكنني أتشنج من تجاوز الحدود المتفق عليها في المعاملات الإنسانية، كما حذفت العشرات لأسباب يأتي في مقدمتها سلبية الحضور، إذ أومن بأنه موقع للتواصل الاجتماعي، وليس فضاء للنميمة والتجسس وحياكة المؤمرات، فلم أسمح لأحد أن ينقل لي في الخاص خصوصيات الآخرين؛ أو يخون ثقتهم فيه في لحظات صفاء معينة.
أحاول دومًا أن تكون إعجاباتي وتعليقاتي تفاعلًا مع طبيعة المنشور لا الناشر، فلست شلليًا أو مقايضًا في هذا الباب، حتى أنني أفضّل أن أرى الاسم بعد القراءة، وهذه واحدة من الطرق التي أختبر بها نزاهتي. كما أحرص قبل أن أدفع بمنشور ما، على ألا أكون مبتذلًا أو سطحيًا أو ساذجًا أو متحاملًا أو تافهًا أو محدودًا، رغم إيماني بحريتي الشخصية. وكثيرًا ما ألجأ إلى تنبيه أصدقائي على الخاص حين أراهم نشروا أمرًا فيه إحدى الصّفات السّابقة، وأتقبّل ذلك منهم.
أخفي اشمئزازي من بعض منشورات الأصدقاء، لإيماني بحريتهم الشخصية في اختيار طرقهم في تقديم أنفسهم، ولا يحملني ذلك على أن أكون جارحًا أو سوقيًا أو وقحًا معهم في تعليقاتي عليهم، من غير الولوغ في المجاملات. لماذا لا يوفّر كثير من الفسابكة العرب حقّ التحية في تدخلاتهم؟ لماذا تغلب لهجة الإقصاء فيها، رغم أنهم يعلقون على منشور نشره صاحبه على جداره الخاص؟ لماذا يقولون العجب العجاب في الدردشات الداخلية، لكنهم يظهرون بمظهر الملائكة المهادنين في العام؟
في فيسبوك، حاول دومًا أن تكون إعجاباتك وتعليقاتك تفاعلًا مع طبيعة المنشور لا الناشر
كثيرًا ما أنشر ومضات شعرية، مباشرة بعد كتابتها، خاصة خلال أسفاري البرية، ثم يحدث أن أنساها، فيذكرني بها فيسبوك بعد عام، كما أن تجربتي الفيسبوكية المتمثلة في نشر يومياتي مع بناتي خلال رمضان عامي 2015 و2016 من أكثر التجارب التي حققت تفاعلًا رائعًا مع نخبة من الأصدقاء، حتى صارت علياء ونجمة ومريم مكرسات في المشهد كأنهن كاتبات، وستصدر التجربة قريبًا في كتاب ورقي.
اقرأ/ي أيضًا: ترامب "ينفّس" مشاكله في سوريا!
أملك 5000 صديق وقرابة 7000 متابع، لكن الإعجابات والتعليقات التي تحظى بها منشوراتي قليلة بالمقارنة مع هذا العدد، إذ لم يحدث أن تجاوز عدد الإعجابات 500، مع ذلك لم يحدث أن تذمرت من ذلك، لإيماني بحرية الناس في طريقة التفاعل، أو تسوّلت اعجابًا على الخاص، إلا في حالات نادرة تتعلق بوجوه معيّنة، غير أنني أنزعج من الذي يلتقيني في الواقع، فيشرع في الثناء على حضوري الفيسبوكي، من غير أن يظهر له أثر في "فيسبوك".
قبل أن يتوفر الإنترنت في بيتي، كنت أستعمل قاعة الإنترنت في الحي، وحدث مرة أن تركت حسابي مفتوحًا، فاطلع عليه شابّ يكرهني، بسبب أنه كان صرّافًا للحشيش، وقد حرمته من زبائن كثر، بأن أقنعتهم بالإقلاع عنه، خاصة المراهقين الذين كان يمنحهم الحشيش مجانًا حتى يورّطهم، فصوّر دردشة أجريتها مع زميلة في الجامعة، ذكّرتني فيها بغزواتنا تحت الأشجار في الجامعة، وأرسلها إلى البيت عن طريق البريد، فما كان من زوجتي إلا أن عاتبتني على أنني مهمل إلى درجة أنني أنسى المفتاح في الباب وأترك فيسبوكي مفتوحًا للناس.
مثل الواقع، لم أكن ملاكًا في حالاتي الفيسبوكية كلها، وهذا حق إنساني لي ولكل إنسان، لكنني لم أكن شيطانًا أيضًا، فهل أستطيع أن أتخلى عنه؟ لا تقلق عزيزي "فيسبوك"، فأنا من النّوع الذي لا يخون الملح.
اقرأ/ي أيضًا: