في منزل صغير وقديم يطل على ميدان "بيت القاضي" العتيق بالجمالية، ولد الطفل صاحب الاسم المركب نجيب محفوظ، ورفض أن تظل حياته بين الجدران الكئيبة والمنطقة المملة التي استلهم منها أغلب رواياته وأحلامه وأفكاره وفتوات قصصه.
كان نجيب محفوظ سيتم اليوم عامه الخامس بعد المئة لو ظل حيًا
خرج نجيب -الروائي- من جلباب ثورة يوليو.. ولم يعد. احتفظ لنفسه بخصوصية ليست عند غيره، استطاع أن يوزِّع حياته وروحه على كل من حوله، كل يوم يخرج من يقول إنه جلس في صالونه، وشرب معه شاي على مقهى "ريش"، وتناول معه الغداء في وسط البلد، وسمع منه، وقال له، وعرف منه سرًّا خطيرًا، واعترافًا لم يجرؤ على نشره.. ولكن أين موقع كل هؤلاء من نجيب محفوظ؟
اقرأ/ي أيضًا: "الأحلام الجديدة".. نجيب محفوظ يثور
حين يقف أحدهم بجواره.. لا يظهر.. يتضاءل، ويختفي، ويبهت نوره تمامًا. التفتيش وراء ذكرياته ومذكراته، التي رفض أن يكتبها، إنما ترك بعضًا من حكاياته الخاصة في كتب جمال الغيطاني ورجاء النقاش، يكشف عن نجيب محفوظ.. لكن حوارًا مجهولًا مع مجلة "باريس ريفيو" الفرنسية -بعد حصوله على "نوبل" للآداب- وضع القرّاء، ووضع الرجل نفسه أمام أسراره بعيدًا عن كواليس رواية "أولاد حارتنا".
قال: "أصلّي أحيانًا، لكن السن يمنعني من الالتزام بالخمسة فروض في الوقت الراهن. أعتبر الدين سلوكًا إنسانيًا، ومعاملة الناس بطريقة جيدة أهم من قضاء المرء كل وقت في صلاة وصيام وسجود.. فالله لم يرد من الدين أن يكون ناديًا للتدريبات الرياضية".
كان يكره السفر، لم يخرجْ من مصر إلا مرة واحدة، خلال حرب اليمن، حين استدعاه الجيش المصري لتحميس ضباطه، وذهب إلى هناك، لكن بعد ذلك، رفض السفر إلى السويد لاستلام جائزة نوبل، ولديه سبب: "مجرد رحلة لمدة أسبوعين ممكن أن تهدد طبيعة حياتي". تلقى دعوة للحج، لكنه رفض الذهاب إلى مكة، لم يكن السفر وحده يمنعه.. قال: "أكره الزحام، ولذلك لم أحجّ". ويروي عن طفولته: "كنت متديّنًا بصورة خاصة وأنا صغير، لكن أبي لم يضغط عليّ للذهاب إلى صلاة الجمعة رغم أنه كان يذهب أسبوعيًا. بدأت أشعر أنّ الدين لا بد أن يكون منفتحًا، اللعنة على الدين منغلق العقل، خاصة أنه مهم، ولكنه قد يكون خطرًا، لأنه زر إذا ضغطت عليه ستحرّك الناس".
نجيب محفوظ: ليس لسلمان رشدي الحق في أن يهين نبيًا أو شيئًا مقدّسًا
اقرأ/ي أيضًا: البرلمان المصري: نجيب محفوظ خادش للحياء أيضًا!
ويعترف: "لم أقرأ رواية آيات شيطانية لسلمان رشدي. في الوقت الذي ظهرت فيه لم أعد قادرًا على القراءة. لكن هناك من حكى فصول الكتاب، والإهانات فيه غير مقبولة. رشدي يهين زوجات النبيّ، والإهانات غير قابلة للنقاش. نحن نناقش الأفكار فقط. وأنا أدافع عن حق رشدي في كتابة ما يشاء في حدود الأفكار، ولكن ليس له الحق في أن يهين نبيًا أو شيئًا مقدّسًا". وعن موقف الخميني الذي أفتى فقط بقتله، يعترض: "حينما يتم اتهام شخص بالردة فالإسلام يخيّره بين التوبة والعقاب، ورشدي لم يحصل على هذا الخيار، وليس من حق المرشد الإيراني أن يصدر حكمًا".
لا يبتعد كلام نجيب محفوظ عن السياسة حتى لو اقترب من الأدب، وداعب مناطق حساسة في الدين، يرجع إلى الحكم والحكام، والدولة، ويتلقى سؤالًا حسّاسًا آخر: هل تعتقد أن الشعب المصري جاهز الآن إلى ديمقراطية كاملة؟
يجيب: "أغلب الناس فى مصر اليوم مشغولون بلقمة العيش، بعض المتعلمين فحسب هم الذين يفهمون كيف تعمل الديمقراطية، وما من شخص يعول أسرة لديه وقت ليتناقش في الديمقراطية". فرح محفوظ، وفقًا للحوار الفرنسي، بـ"ثورة يوليو"، ولكن "لسوء الحظ لم تأتِ بالديمقراطية"، وفقًا قوله، لأنه في زمن ناصر كان المرء يخاف من كل شيء: "نجلس في المقاهي، والخوف يمنعنا من الكلام، كنا نخشى الكلام حتى في بيوتنا، كنت أخاف أن أكلم ابنتي عن شيء حدث قبل الثورة فتذهب بعد ذلك إلى المدرسة وتقول شيئًا يساء تفسيره".
وماذا عن "السادات"؟.. يقول: "جعلنا نشعر بمزيد من الأمن". وحسني مبارك؟.. يرى "محفوظ" أن "دستوره غير ديمقراطي، لكنه رئيس ديمقراطي يسمح لك بأن تقول رأيك، الصحافة حرة، وتستطيع في عهده أن تجلس في بيتك، وترفع صوتك كما لو كنت في لندن".
اقرأ/ي أيضًا: