حين تسبق السياسةُ الأخلاق، تتقدّم عليها، تصير الأخيرة مهزلة، تصير حذاء، وغالبًا ما يكون مهترئًا لكثرة الاستعمال في حالات مماثلة، تصير حذاء يدعس على بركٍ من الوحل لتصل القدم المرتدية له والمحتمية به، والقدم هنا هي السياسة، لتصل إلى غايتها دون أن يمسّها شيء من نجاسة المدعوس عليا.
تحرص الانتهازيّة على إظهار نوع من المصداقيّة، والانتهازيّون حريصون على تبرير مواقفهم السياسية
وكلّما كثرت الحالات ازداد الحذاء اهتراء، والقدم (أو السياسة) تبقى كما هي، محافظة على نظافتها محتمية بالحذاء (أو بالأخلاق). وأوّل ما قد يخطر على البال هنا، وأنسبه، هي المواقف الأخلاقية التي تصدر عن العديد من مؤيدي نظام الأسد في مسائل لا تكون الأخلاق فيها سوى ذلك الحذاء الذي يتوسّلونه للعبور بمواقف سياسيّة تبقى نظيفة، للعبور إلى حيث يريدون.
فلا تكون الأخلاق هنا سوى وسيلة لتمرير موقف سياسي، ويكون الأخير محرِّكًا للأولى ومسبّبًا أساسيًا لها، وربّما وحيدًا. وليست هذه انتهازيّة، فالانتهازيّة تحرص على إظهار نوع من المصداقيّة، والانتهازيّون حريصون على تبرير مواقفهم السياسية بشتّى الطرق.
نحن هنا أمام ما هو أشد من الانتهازيّة (حفاظًا على لغة المقال سأتجنّب تسميته)، أمام نوع من الشراكة في الجريمة والتحريض على المقبل منها، فحين يكون المرتكب لها "من جماعته" فلا يكتفي الممتلئ بهذا الذي أتجنّب تسميته بغضّ الطرف عنها كأنّها لم تكن، ولا الاختباء خلف شاشة الفيسبوك مراقبًا ما يحصل دون "مشاركاته"، فهذه الأخيرة انتهازيّة يمنعها بعض الإحراج من الظهور. أمّا الأشدّ منها فهو أن يتمّم أحدهم على الجرائم بمنحها كل التبريرات والتبريكات الممكنة: أكثرها "كلاسيكيّة" كانت العمالة لإسرائيل وأكثرها "حداثة" هي الافتتان بداعش.
لكن ما أتجنّب تسميته لا يكتمل هنا، فهذا نصفه الأوّل، أمّا نصفه الآخر، وهو لصيق به على كلّ حال، فيخصّ الجريمة نفسها إنّما بمرتكب آخر لا يكون "من جماعته". فالجريمة هنا مُدانة لأسباب تكون ظاهريًا أخلاقيّة (كالحذاء) وتكون باطنيًا سياسية (كالقدم). والجريمة ذاتها، من الاعتقال إلى القتل، يختلف تلقّي أصحاب النّظام السوري لها تبعاً لكلٍّ من المرتكب والضّحية، فإن كان المرتكب هو النظام أو أحد من فريقه فلا مانع أخلاقي في ذلك، بل هنالك مبررات ومحفّزات أخلاقية للموقف السياسي، أمّا إن تمّ ارتكاب الجريمة ذاتها من قبل نظام عربي غير صديق للنظام السوري، كالسعودي مثلًا، فلا مبرر أخلاقي للسكوت عنها، وتضرب الأخلاق لديهم أعلى معدّلاتها في مواقفهم السياسية، تفرقع كالألعاب الناريّة، وتنشط صفحات الفيسبوك وتويتر وتنشأ الهاشتاغات من حيث لا تدري.
يغض الانتهازيون الطرف عن جرائم النظام السوري وينشغلون في التنديد باعتقال النظام السعودي لأشرف فياض
لكن هذا الذي أتجنّب تسميته لا يكتمل لديهم هنا، أي لا يصل قمّته، أو قاعه، لأنّ الفوارق الكمّية كثيرًا ما لا تسمح بالمقاربات، فحين يقتل النظام خمسين إنسانًا في يوم واحد وعادي من الأيام السورية، ليس كأن يقتل نظام أو تنظيم شخصاً أو اثنيْن في مكان آخر من العالم، إلا إن اعتمدنا مقولة ستالين (وهو من الجماعة ذاتها)، ووافقنا عليها، بأن: موت شخص واحد فهذا مأساوي أما موت مليون فهذه إحصائيّة.
وهو الحاصل حين نجد أن أحد الانتهازيين ممن يغضّون الطرف عن جرائم النظام السوري أو أحد أولئك ممن أتجنّب توصيفهم، ممن يحرّضون على جرائمه، حين نجد أحدهم ينشغل في التنديد باعتقال النظام السعودي لشاعر فلسطيني والحكم عليه بالإعدام في حين أنّ الإعدام المباشر والميداني أو في السجون من أثر التعذيب، لمثقفين وآخرين، فلسطينيين وسوريين، أنّه أمر مختلف تمامًا لديهم، وربّما نقيض له.
الحذاء إذا ما توسّخ مرّة، وتنجّس، مرّة واثنتيْن ومائة، تتغيّر هيئته، تتراكم النجاسة عليه فتغيّر من شكله ولونه ورائحته، تتراكم وتلتصق وتتيبّس وتصير هذه الحالة العاديّة والجديدة له، وإن حصل وتمّ نحته وغسله فلن يعود أبدًا، بعد كل ذلك، كما كان. سيبقى ملطّخاً وتفترشه الندوب.
الحرية لأشرف فيّاض من سجن أحد أكثر الأنظمة تخلّفًا وقمعًا في العالم، والحرية له كذلك من الكثير من المنادين بهذه الحريّة، ممن لا يرون في مسألته غير مكسب سياسي ضدَّ نظام ليس صديقًا (وإن ليس عدوًا) لنظامهم.
اقرأ/ي أيضًا: