اختارت الأيام الأورو مغاربية في طبعتها السابعة، والتي نظمتها بعثة الاتحاد الأوروبي في الجزائر، بمناسبة "معرض الجزائر الدولي للكتاب"، الأدب البوليسي موضوعًا لها. ثلاث جلسات نشطها واحد وعشرون كاتبًا من أوروبا وتونس والمغرب والجزائر، منهم جوهانا هولمستروم من فنلندا، وألكسيس رافيلو من إسبانيا، وكوستاس كالفوبولوس من اليونان، وإيغور برغلر من رومانيا، وعاطف عطية من تونس، وجاكوب كوهن من المغرب، وأمين الزاوي من الجزائر.
أزمة الهوية التي يعانيها الفضاء الجزائري، لم تنعكس على الهواجس السياسية فقط، بل تعدتها إلى الهواجس الفنية أيضًا
وتمحورت هذه الجلسات حول ثلاثة هواجس هي: الرواية البوليسية.. من النوع الثانوي إلى الأدب النموذجي، وهل الحياة عبارة عن رواية بوليسية؟ والرواية البوليسية في الفن. في السنوات الأخيرة، تراجعت في الجزائر الأسئلة المتعلقة بالفنون، ليس من حيث ماهياتها، بل من حيث أزماتها وحاجاتها والحوار فيما بينها، ذلك أن الفنون مثل الكائنات الحية، تستدعي النقاش المفتوح والمسؤول حولها، من طرف المعنيين المباشرين بها، أقصد الفنانين، ومن طرف مخابر البحث ومنابر الأفكار.
إنه من الغريب أن تُترك الأسئلة المتعلقة بالوظيفة التفاعلية للفنون، وهي تتحرك في محيطها الاجتماعي، ويتم التركيز على سؤال الهوية، ففي المسرح والشعر مثلًا، لا يزال النقاش يقوم على سؤال: ما المسرح وما الشعر؟ إن أزمة الهوية التي يعانيها الفضاء الجزائري، لم تنعكس على الهواجس السياسية فقط، بل تعدتها إلى الهواجس الفنية أيضًا.
من الأسئلة المغيبة في المشهد الثقافي الجزائري، ذلك المتعلق بتجليات الأدب البوليسي في الفنون، خاصة تلك التي تتعاطى مع الكلمة، مثل الرواية والمسرح والسينما، فقليل من البحث عما أنتج في العقود التي تلت الاستقلال الوطني، يجعلنا نقف على نتيجة مدهشة هي الندرة في مراحلَ معينة، والغياب التام في مراحلَ أخرى، حتى أن الراغب في إنجاز أنطولوجيا لكتاب الأدب البوليسي في الجزائر، سيجد صعوبة بالغة في ذلك.
هنا تطرح هذه الأسئلة نفسها: ما معنى أن يحصل ذلك في بلد عاش تجربة استعمار دام قرنًا وثلث القرن، كانت الجريمة المنظمة فيها صارخة، وعاش ثورة تحرير دامت سبع سنوات، حدثت فيها آلاف الوقائع التي يُفترض أنها تستفز هذا النوع من الأدب، خاصة أنه كان موضة في تلك المرحلة، ثم عاش تجربة إرهاب أعمى دامت عشرية كاملة، ويكفي أن نذكر عدد ضحاياها.. مائتي ألف قتيل، حتى تزداد دهشتنا من عدم تفاعل المشهد الفني بكل حساسياته، مع تلك التجربة، عن طريق أدوات الأدب البوليسي.
اليوم.. يعيش المجتمع الجزائري، أنماطًا مبتكرة من الجريمة، من غير أن تتحرك فيه سواكن الأدب البوليسي، والمفارقة الصارخة أن هذه الجرائم، ومنها موضة اختطاف الأطفال، تشعل هشيم الفضائيات الوطنية ومواقع التواصل الاجتماعي، لكن لا أثر لها فيما يكتب أدبيًا، ويُنجز مسرحيًا وسينمائيًا، بأدوات الأدب البوليسي دائمًا.
ما معنى أن ينتعش الأدب البوليسي في دول غارقة في السلام مثل السويد والنرويج، ويركد في الجزائر الثرية بالجريمة بكل وجوهها؟
ما معنى أن ينتعش الأدب البوليسي في دول غارقة في السلام، مثل السويد والنرويج، ويركد في الجزائر الثرية بالجريمة بكل وجوهها؟ هل يتعلق الأمر بطبيعة النظام السياسي والاجتماعي العام، والذي يقوم على ثقافة التعتيم على الجريمة، مُلخصًا في المثل الشعبي "استر ما ستر الله"؟ وهو واقع يجري المصالحات من غير مصارحات، حتى في تلك الجرائم الكبيرة والمثيرة للنقاش العام. إنه واقع يُحيِّدُ المحقق/ التحرّي في الواقع، والذي هو عصب الأدب البوليسي، ممهدًا لتغييبه في هذا الأدب.
كان يجب على النخبة الأدبية في الجزائر، ومعها الإعلام الثقافي، أن يتخذا من اختيار "الأيام الأورو مغاربية"، الأدب البوليسي موضوعًا عامًا لها، فرصة للخوض في هذه الهواجس، مع إشراك الناشرين الذين يتهرب كثير منهم من نشر هذا النوع من الأدب، لكنه المشهد الثقافي الجزائري، شغوف دائمًا بتفويت الفرص.
اقرأ/ي أيضًا: