طُرح موضوع الرقمية في الأدب العربي على أكثر من مستوى وصار يضجّ بالتطلعات النقدية المتواردة، وذلك عبر سيرورة البحث في مُستجداته، ومؤخّرًا ازدان بالتقصّي والمتابعة عبر الملتقيات والمؤتمرات الدولية، التي تردد صداها في الكثير من المواقع في الصحافة المكتوبة والإلكترونية. فهل يُعدّ هذا الوافد الرقمي امتدادًا لرهانات خلقت دينامية إبداعية وبثتّ أولى إرهاصات النص الأدبي الرقمي بعد ادماج التطورات التكنولوجية الحديثة؟
هل يُعدّ الرقمي امتدادًا لرهانات خلقت دينامية إبداعية وبثتّ أولى إرهاصات النص الأدبي الرقمي بعد ادماج التطورات التكنولوجية الحديثة؟
لقد برزت في هذا المجال أسماء عربية متعددة مرتبطة بالبحث في الرقمية والترابط النصّي، لكن تظل الكثير من الأوهام مترسبة خلال العقد الأخير من البحث في الأدب الرقمي، خصوصًا في جنسه الشعري، وهذا ما أشار إليه عبد الفتاح شهيد عند تناوله للقصيدة العربية في أفقها الرقمي.
اقرأ/ي أيضًا: 3 تجارب سورية في الفن الرقمي
في السياق نفسه، يشير إلى ظاهرة غريبة وهي ريادة النقد وسبقه على طريق "الإبداع الرقمي" في انتظار أن تكون للتجارب الإبداعية أبعاد جمالية للشعر الرقمي، ولعل تجربة الروائي والشاعر الأردني محمد سناجلة والشاعر العراقي مشتاق عباس معن وغيرهم من رواد القصيدة الرقمية حجب نقاش الإشكالات الحقيقية بشأنها، وانشغال أصحابها بالريادة والأسبقية دون أن نغبن حقها من الإبداع والشعرية.
فصاحب رواية "صقيع"، وهو العمل الثالث السردي لسناجلة، ضمّن فيها قصيدتين رقميتين. يقول في هذا الشأن "انا سارد بالدرجة الاولى، لكني أردت أن أقدم نموذجًا وأفقًا آخر للكتابة الشعرية التي تغدو الكلمات فيها جزءًا فقط من بنية القصيدة".
وبقطع النظر عن مجهوده الإبداعي المتواتر على مستوى الرواية، فإنه اعتمد ملء فراغ خلّفه توالي الشعراء حول قصائدهم الورقية أو المرقمنة. إنها إستراتيجية ملء الفراغات والإبداع بالنيابة، لكن يصعُب الحديث عن تجربة شعرية رقمية، بآفاق جمالية في مستوى تطلعات القراءة الواعية. فاغلب تجارب الجيل الجديد من الشعراء ترعرعت بين الحواسب والهواتف الذكية والوسائط المتعددة من وسائل الاتصال الاجتماعي مثل الفيسبوك والتوتير واليوتيوب.
يحتاج الإبداع في الكتابة الرقمية، بالإضافة إلى الموهبة ومُواكبة المشهد الثقافي، إلى ضبط التقنية والوعي بها والثقة في الآفاق التي تمنحها للمبدع والمُتلقي معًا في علاقة جدلية.
يتضمن النص الادبي المخطوط والمطبوع معًا أولى إرهاصات الرواية الرقمية، حسب الناقد والروائي شعيب حليفي، ذلك أن النص ينطوي على آفاق تجريبية من حيث الشكل وتعدّد طرائق الكتابة والتلقي، كما ان "سرديات الحاسوب" حسب حليفي أيضًا، تُساعد الكتابة الروائية على ادماج التطورات الرقمية الراهنة وتُوسع دائرة التفاعل بين الكاتب والقارئ، ومنها تتسع آفاق النص المترابط.
ويري حليفي أن "الحوامل الرقمية" بدأت تساعد الرواية، خصوصًا في الانتقال من مستوى التداول التقليدي إلى مستوى التداول التفاعلي.
صار الكثير يبحث عن الصيت المُدوي من خلال الاتجاه إلى الوسيط الرقمي دون الالتفات إلى مشروعية هذا البريق الإلكتروني في ظل تراكم كمّي ومفهومية خاصة، لا تندرج في سياق معرفي مثلما هو رائج في المُنجز الغربي المُتقدم في هذا المجال. فكيف يمكن ان ننهض بالنص الرقمي شعرًا أو سردًا دون انشغال بهمّ الريادة عن قلق الابداع، لا سيما وأن الاغلبية ترى في هذه التقنية وسائط مُحايدة تُلهمها في تحقيق جماهرية وشهرة وهمية. والواقع أن الجودة الأدبية لا تعني بالضرورة عدد القراءات مثلما هو سائد في وسائل الاتصال الاجتماعي، بمعنى النقر أو التعليقات وعدد التصّفح والمشاركات مع الاصدقاء والمجموعات الأدبية، ذلك أن اعتبارات كثيرة تحكم على هكذا تفاعل. فهذا المؤشر يتجاوز النقد الأدبي المُتخصّص والمؤسسات الثقافية المُعترف بها.
أصبحت المعلومة وآليات تداولها ونشرها عبر الفضاء الأزرق، في مُتناول الجميع، عكس المتعارف عليه من خلال المنشورات الورقية
إن المنطق الاستهلاكي في عصر معلوماتي مُتسارع في التعامل مع التقنية في ثقافتنا، يظل يؤثر في نوعية الإبداع الرقمي، خاصة في الشعر، التي بدورها في حاجة إلى عمق معرفي وتدوين لغة مُتجذّرة بادئ الأمر من الذاكرة والعقل وقاموس غير تقليدي، إضافة إلى الطاقة الإبداعية، وذلك الثراء الجمالي الخصب.
اقرأ/ي أيضًا: الحب الرقمي
بناء على رأي عبد الفتاح شهيد، فالجماهيرية مطلب بعيد عن القصيدة العربية في إبدالها الرقمي في هذه المرحلة بالذات، وبعيدًا عن الشروط المعرفية والجمالية والتقنية التي يجب أن تتوفر لها بصيغة نوعية. وبالتالي يصعب فعلًا تقديم مفهوم مُحددّ للأدب الذي يعتمد على شبكة الإنترنت، ويتخذ من التكنولوجيا وسيلة للتواصل والانتشار.
هل يمكن اعتبار التجربة الإبداعية الرقمية أدبًا كونيًّا، لأنه وليد الفترة التي نعيشها والتي تسمى "ما بعد بعد" الحداثة؟
لا يمكن أن ننكر أن الساحة الأدبية الرقمية العربية تشهد في الآونة الاخيرة حركة نشيطة، وهذا المُؤشر سيساهم في دينامية التنظير للأدب الرقمي، رغم الاختلاف في المفاهيم وذلك الشتات في التسمية: الأدب الإلكتروني، الأدب الرقمي، الأدب الشبكي.. وذلك في إطار فضاء تكنولوجي حديث سِمته الأساسية هو التنوع والتحوّل السريع، حيث أصبحت المعلومة وآليات تداولها ونشرها عبر الفضاء الأزرق، في مُتناول الجميع، عكس المتعارف عليه من خلال المنشورات الورقية، إضافة طبعًا إلى سرعة التفاعل لدى المتلقي بشتى أنواعه.
يشير الناقد شرف الدين مجدولين إلى أن هناك آفاقًا واسعة للرواية العربية لتنتقل من الورقي إلى الرقمي، ومن الحسّي إلى المفترض، لتصبح نصًّا مكتوبًا بالضياء بعد أن كان حبرًا على الورق. وهذا يعني ان الكتابة الرقمية فتحت أمام الرواية العربية الثورة التقنية والتكنولوجية.
وهنا يرصد الناقد سعيد يقطين خصوصيات الكتابتين المطبوعة والرقمية، حيث يرى إنه إذا لم تتم الإجابة عن سؤال كيفية دخول عصر الطباعة، لن يأتي فهم الانتقال الجاري إلى العصر الرقمي.
حسب المختصين، لا يمكننا أن نعتبر الكتابة الرقمية في العالم العربي ضمن الأدب الكوني، أو بالأحرى ضمن مصطلح "ادب الكوزمو" الذي طُرح مؤخرًا من خلال ملتقيات دولية ويعني "النص بين التأصيل الكلاسيكي والتجريب الرقمي"، وذلك لغياب الترجمة إلى لغات أخرى وتحقيق العالمية. فرغم أن وسائل الاتصال الاجتماعي منحت للأدب خطابًا عالميًا جديدًا يجمع بين مختلف الشعوب، خصوصا في الوطن العربي، لكن تنقصه المواصفات الرقمية، نظرًا لأن الترجمة هي البوابة الأساسية والفاعلة لتحقيق "النظرة الكونية" للأدب، وفي غيابها غياب للمشترك الإنساني بين الأمم.
هل يساهم التحول الرقمي في مستوى تحقيق الجودة للنص الأدبي في عصر العولمة؟
بالتالي، فاللغة العربية في حاجة ماسة لاقتحام التقنية، سواء بواسطة الشعر أو السرد، لكن بثبات ووعي للتأقلم مع هذا الوافد الجديد والانخراط في عوالمه الابداعية وتجاوز المفهوم الاستهلاكي والمعايير الوهمية، من أجل استغلال هذه الوسائط المعاصرة بجودة في هذا الكون الرقمي الفسيح.
اقرأ/ي أيضًا: كهف تمّام عزّام
ولنا أن نتساءل بعد أن يستوعب الفضاء الثقافي أبعاد الادب الرقمي ومعطياته، هل يساهم هذا التحول في مستوى تحقيق الجودة للنص الأدبي في عصر العولمة؟
اقرأ/ي أيضًا: