أقدم شاب سوري يوم السبت على إلقاء نفسه من من أعلى جسر عبدون في العاصمة الأردنية عمّان، في مشهد أثار ضجة في أوساط الأردنيين الذين ارتبط اسم الجسر لديهم بعشرات حالات الانتحار ومحاولات الانتحار.
للحرب وحالة اللجوء التي تخلقها أثر عميق على الحالة النفسية لمن عايشوا مراراتها
ورغم أن الأجهزة الأمنية في الأردن لم تقدم تفاصيل إضافية عن الوضع النفسي للشاب، إلا أن مجرد الإشارة إلى أنه سوري أعاد إلى الواجهة تساؤلات كثيرة عن تجارب الحرب واللجوء وأثرها على الحالة النفسية لمن عاشوها.
غزة... اضطرابات مركبة
بعد كل حرب من حروب غزة الأربعة، في الوقت الذي كان يتفقد من عاش من أهلها بعضهم البعض، كانت المخاوف تزداد لدى الآباء والأمهات ولدى المختصين بالصحة النفسية على حد سواء من تبعات قد لا تبدأ بالظهور إلا بعد حين.
يقول الدكتور أشرف الصالحي، استشاري الطب النفسي، إنه على الرغم من أن الدراسات تشير إلى أن نسب الانتحار والاضطرابات النفسية خلال أوقات الحروب تنخفض بفعل تلاحم المجتمعات في الغالب، إلا أن الوضع في غزة يختلف تماما، إذ إنها مواجهة مستمرة تجعل الغزيين يشعرون وكأنهم في حالة حرب وقلق حتى في أوقات الهدوء وبعد إعلان وقف إطلاق النار، وهو ما يخلق حالة مركبة من اضطراب ما بعد الصدمة، تتكون من طبقات متعددة منه.
ما يزيد الأمر فداحة هو أن هذه الحالة المعقدة من اضطراب ما بعد الصدمة لا تأتي منفردة، إنما ترافقها اضطرابات أخرى مثل القلق أو الاكتئاب أو التفاعلات الاجتماعية، وكل واحد من هذه العوامل كفيل برفع احتمالية الوصول إلى وضع معقد قد يقود إلى الانتحار، كما يقول الدكتور الصالحي.
هذه الفكرة تعبر عنها حلا الخطيب (16 عامًا) من غزة بقولها إن الحرب أصبحت جزءًا من حياتها وحياة الجميع هناك، لدرجة أنها بعد حرب عام 2014 بدأت تلقائيا بانتظار الحرب التالية رغم أنها كانت لا زالت وقتها طفلة.
"قبل الحرب الأخيرة كنت أحلم كوابيس، بعدين بطلت أحلم بفترة رمضان، بس مع الحرب تاني رجعت الكوابيس مستمرة"، تضيف حلا.
تشير إحصائيات أجرتها منظمة برنامج غزة للصحة النفسية، وتغطي الفترة ما بين عام 2014 وحتى العدوان الأخير في أيار/مايو الماضي، إلى أن أكثر من ثلث المراهقين ما بين الثانية عشرة والثامنة عشرة ممن يعانون من مشاكل نفسية في القطاع يعانون من اضطرابات نفسية تتعلق معظمها بالصدمات والتوتر، في حين يعاني 41% من الرجال والنساء فوق الخامسة والعشرين من العمر من الاضطراب الاكتئابي الشديد.
هذه الأرقام تزداد خطورة إن ربطت بدراسة سابقة نشرت عام 2017 في المجلة الدولية لطب الأطفال والمراهقين، أي بعد ثلاث سنوات من آخر حرب ضربت غزة، وهي فترة كان من المفترض أن تمنح الغزيين فرصة للتعافي.
تشير أرقام الدراسة إلى أن أكثر من ربع المراهقين في غزة ما بين الصفين السابع والتاسع فكروا بالانتحار، وهي نسبة عالية نسبيا بالمقارنة مع دول المنطقة والعالم على حد سواء، ففي دول الشرق الأوسط حسب الدراسة نفسها، تتراوح نسبة التفكير بالانتحار لدى الفئة العمرية ذاتها ما بين 15.6% و 23.7%.
اللجوء السوري... الخوف من تجربة لجوء تستنسخ نفسها
في تجربة أخرى تختلف عن تجربة أهل غزة في التفاصيل إلا أنها تشترك معها في الأثر النفسي، لا يزال حوالي 6.6 مليون لاجئ سوري حول العالم، يعيش منهم حوالي 650,000 في الأردن، يمسحون آثار ما خلفته سنوات من القمع والحرب ومن اللجوء المتكرر.
يستذكر غ.ح (20 عامًا) رحلة هروبه مع عائلته من الموت الذي كان يلاحقهم من قرية إلى أخرى حتى انتهى بهم المطاف في الأردن. يتحدث غ.ح عن تجربته خلال رحلة اللجوء وقد كان في الثانية عشرة من العمر، فيقول إن الفكرة التي كانت تستحوذ على العائلة طوال الوقت كانت تتلخص في كيفية الحفاظ على حياة أفرادها، والسؤال الأهم الذي كان يدور في ذهنه هو "إلى متى سيدوم هذا الوضع؟"، و"هل من المعقول أن أقدر أكمل وأشوف شو حيصير بعدين؟".
شاهد: تغطية لهذا الملف والملفات الإخبارية الراهنة عربيًا ودوليًا على شاشة التلفزيون العربي أخبار
التوتر والقلق اللذان رافقا غ.ح طوال فترة اللجوء التي كررت نفسها أربع مرات قبل أن يصل إلى الأردن، استمرا في السنة الأولى له في بلاد اللجوء حتى بعد خروجه من مناطق الحرب، ولكن هذه المرة تحول القلق من قلق على الحياة إلى آخر ناتج عن الخوف من تكرار التجربة مرة خامسة، ومن مستقبل مجهول قد لا يحصل فيه على حقه في التعليم ومن ثم يحرم من تحقيق أحلام يخطط لها كل من هم في عمره.
على الرغم من صعوبة ما مر به غ.ح من ظروف كادت تتسبب في مقتله وتركت آثارًا كبيرة في نفسه، إلا أن القِصر النسبي لفترة الترحال التي امتدت به طوال عام واحد فقط، وسرعة تعرفه على أصدقاء جدد في الأردن، وتعرفه أيضًا على شغفه الجديد بالموسيقى، كل ذلك جعله يتجاوز الآثار النفسية للحرب واللجوء، وهو ما جعله أوفر حظًا من كثير من أقرانه الذين تمكنت منهم أعراض الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة ودفعت بالكثير منهم للجوء إلى وسائل أخرى للتعامل مع القلق والتوتر مثل التدخين وتعاطي الممنوعات.
يشير المسح الوطني التدرجي لرصد عوامل الخطورة المرتبطة بالأمراض السارية (STEPs) لعام 2019 والذي شمل عينة من 3000 لاجئ سوري في الأردن فوق سن الثامنة عشر، إلى أن حوالي نصف من خضعوا للعينة يعانون من أعراض الاكتئاب، ومع ذلك فإن أكثر من 96% منهم لم يلجأوا للحصول على أي مساعدة نفسية.
مسببات هذه الأعراض والتي ترتبط على الأغلب بخوض تجربة الحرب واللجوء، تترك أثرا نفسيا أعمق على الأطفال والمراهقين، خاصة مع عدم نضوج قدرتهم على التعبير عن المشاعر، كما يقول الدكتور أشرف الصالحي، وهو أيضا ما تؤكده دراسة نشرت العام الماضي في مجلة الصحة العامة (Journal of Public Health)، إذ خلصت إلى أن حوالي ثلث المراهقين من اللاجئين السوريين الذين شملتهم الدراسة يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة بدرجة متوسطة إلى حادة، كما ربطت الدراسة بين بعد مكان السكن عن الحدود السورية وبين انخفاض تأثر المراهقين المشمولين في الدراسة باضطراب ما بعد الصدمة، وهي نتيجة تنبئ بالكثير عما يمكن القيام به لحماية الأطفال من آثار الحروب ومساعدتهم على التعافي منها.
اقرأ/ي أيضًا:
بيغاسوس يصل الأردن... غضب واسع بعد الكشف عن اختراق هاتف ناشطة حقوقية بارزة
مش دافع.. أردنيون يطلقون حملة إلكترونية ضد رفع تعرفة الكهرباء