ازداد الحديث في الآونة الأخيرة عن إمكانية إحداث تغيير على مستوى النظام الدولي من حيث البنية سواء في ظل انتشار جائحة كورونا أو بعد انتهائها. وبرزت أسئلة أخرى من قبيل كيف ستؤثر جائحة كورونا على التوازنات الدولية والإقليمية، وهل ستطاول الجائحة علاقة الدولة بمكوناتها الداخلية، بالإضافة إلى كيفية تعامل الأقطاب في العالم لمنع استمرار حالة الهيمنة التي تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية على النظام العالمي، بعد أن كشفت جائحة كورنا أزمات دفينة تعصف بالبيت الأبيض أدت إلى تراجع دور واشنطن القيادي في العالم. يرى العديد من الأكاديميين أن العالم بعد كورونا لن يكون كما قبل، خاصة أن التنافس بين القوى العالمية الفاعلة لا تتوانى عن استخدام القوة بأشكالها، الصلبة أو الناعمة من أجل تعظيم نفوذها، سواء عبر الإنفاق على التسليح أو تطوير صناعة التكنولوجيا.
أحمد قاسم حسين: "الوباء المُعدي بصفته متغيرًا عارضًا غير مرئي عابرًا للحدود القومية يؤثر في السياسات الدولية، ومن شأنه أن يعيد هيكلة العلاقات بين الفواعل في النظام الدولي"
في سمنار الباحث الدكتور أحمد قاسم حسين في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، يطرح فكرة مفادها أن الوباء المُعدي بصفته متغيرًا عارضًا غير مرئي عابرًا للحدود القومية يؤثر في السياسات الدولية، ومن شأنه أن يعيد هيكلة العلاقات بين الفواعل في النظام الدولي، بالإضافة إلى احتمالية تحكمه بالنشاط السياسي والاقتصادي في العالم. نظريًا، تتم دراسة الأوبئة المعدية على أنها مسائل عابرة للحدود القومية، وأن العبء الأمني والاقتصادي لا يمكن لدولة واحدة أن تتحمله، لكن لا يمكن الافتراض في الوقت الحاضر أن وباء كورونا بحد ذاته سيغير بنية النظام الدولي على المدى المنظور.
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "الفلسطينيون في العالم: دراسة ديموغرافية".. تحولات وأرقام
يرى حسين أن كورونا، كَوباء، فتح الباب أمام جدال كبير في حقل العلاقات الدولية حول أثره في تغيير بنية النظام الدولي، على اعتبار أنه عارضٌ له من الأثر الكبير على العلاقات الاقتصادية والسياسية والأمنية بين الدول. قبل انتشار كورونا المستجد، كانت بوادر حدوث تغيّر في النظام الدولي سببه صعود قوى دولية جديدة كالصين وروسيا، وأفرز مشكلات مع الولايات المتحدة اليت لم تكن ترغب بصعود هذه القوى على الإطلاق.
عَولمة الأوبئة
بالإشارة إلى طبيعة العولمة قائمة إلى حد بعيد على ازدياد العلاقات بين الدول وانتقال رؤوس الأموال والتعاملات التجارية، نجد أن بتحصيل الانتقال السريع بين الدول أصبحت الأوبئة أكثر انتشارًا وأوسع نطاقًا مقارنة بحركة الناس في العالم القديم. على الرغم من هذه الملاحظة، إلا أن حسين يعزو انتشار الأوبئة إلى فكرة العولمة ويضعها سببًا رئيسًا لانتشار العدوى، ويذكّر بأنه في أدبيات الأوبئة يجري الحديث عن طاعون أنطونيوس الإمبراطورية الرومانية وطاعون جستنيان، والطاعون الأسود ووباء الكوليرا وغيرها من الأوبئة على أنها ذات عوامل طبيعية مبتعدة كل البعد عن العوامل السياسية، وإن كان بعضها قد انتقل بفعل طبيعة الانتقال التجاري بين المدن آنذاك. ما يهم بالنسبة للنظام الدولي المُعولَم، بحسب قول حسين، هو عدم القدرة على ضبط الحركة بين الدول التي أنتجها هذا النظام بعد انهيار الاتحاد السوفييت وتركته لدول مقسمة لا تستطيع أن تواجه الأوبئة ككيانات منفردة وبمعزل عن باقي جاراتها، وبالتالي فإن العولمة توفر فرصة لانتشار وتعزيز مسببات الأوبئة المعدية.
على الطرف المقابل، يذهب أنصار السياسات النيو-ليبرالية إلى الاعتداد أن العولمة توفر الفرص لإيجاد مخرج من حالة الصراع مع الأوبئة في ظل وجود شركات متعددة الجنسيات ومختبرات أدوية عالمية وحّدت جهودها بفعل الانتشار الأفقي للتكنولوجيا في النظام الدولي الحالي.
عادت الدولة في أزمة كورونا إلى دورها الكلاسيكي في إحكام القبضة على المخرجات الاقتصادية والحركة الاجتماعية
هنا لا بد من التركيز في أن هذه الشركات الاقتصادية بالمحصلة والاحتكارات الكبرى، قد ساهمت في تعطيل وجود الدولة القومية لصالح انتشار اقتصادات عالمية مركزية تعزز من سطوة صندوق النقد الدولي على الاقتصادات والدول المتوسطة والضعيفة بحجة أنها غير قادرة على القيام بأعباء مواجهة الأوبئة.
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "الإرث الفلسطينيّ المرئيّ والمسموع".. تحصين الذاكرة الفلسطينية
يفترض حسين في أطروحته أن الأوبئة المُعولمة من شأنها أن تمهّد لتغيير في طبيعة العلاقات بين الدول على مستوى النظم الصحية من خلال فرض بروتوكولات يشوبها، بشكل أو بآخر، الطابع السياسي المستخدم من قبل الفواعل الدولية للضغط على دول أضعف لتحقيق مكاسب سياسة واقتصادية بعيدة. يمكن الاستدلال هنا بالتلويح الدائم برفع الدعم عن منظمة الصحة العالمية من قبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، واتهامها علنًا أنها دمية بيد الصين، على عودة التنافس بين بين الوحدات الأساسية في النظام الدولي في سبيل تحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية مستقبلية.
أزمة كورونا وعوة وظيفة الدولة
لا شك أن العولمة غيرت من عناصر تكوين الدولة القومية بفعلها عنصر من عناصر النظام الدولي، وعلى اعتبار أن أي دولة لا يمكنها مواجهة فايروس مثل فايروس كورونا المستجد، فإن نموذجًا لما أسماه حسين "الحوكمة العَولمية" غيّر طابع السياسة العالمية من مستوى الدولة إلى مستوى ما بعد الدولة. تبدو العولمة الاقتصادية ذات أثر كبير في تعاطي الدول مع أزمة كورونا، إذ إنها عززت من رأس المال مقابل دور الدولة بحد ذاتها. يرى الدكتور عزمي بشارة في هذا السياق أن "الوباء يعيد الدولة حتى بالنسبة لأولئك الذين أخطأوا في نعي الدولة" لدرجة أن الدولة أصبحت هي من "يقرر الإجراءات ومدد الإغلاق ومنع التجول، بالإضافة على ميزانيات العلاج والمكافحة وغيرها".
ومن هنا، فإن الدولة في أزمة كورونا عادت من جديد إلى دورها الكلاسيكي في إحكام القبضة على المخرجات الاقتصادية والحركة الاجتماعية، لتستعيد قوة سيادتها على المؤسسات والمجتمع بنفس المستوى.
فرصة الاعتماد المتبادل
مع انتشار فايروس كورونا برزت أصوات متشائمة حول إمكانية إعادة إنتاج العلاقات الدولية والتعاون بين الدول في سبيل التصدي للجائحة، خاصة في موضوع تأمين اللوجستيات والسلع الصحية وإجراء أبحاث حول لقاح للفايروس. ما جرى هو أن العالم فعليًا يشهد تعاونًا واعتمادًا متبادلًا، ليكون التنافس على أشده بين الدول الراغبة بالاستحواذ على اللقاح كالولايات المتحدة وروسيا والصين. حقيقة الأمر كما يقترح حسين أن المعايير القومية لم تعد فعالة في وجه مخاطر صحية مرتبطة بشكل رئيس بتحركات عالمية للأفراد، الأمر الذي دفع منظمة الصحة العالمية لإعادة ترسيم استراتيجيات وبروتوكولات التعاطي مع الأوبئة العالمية. تأتي خطة الصحة العالمية هذه في ظل الحديث عن تنافس دولي عميق كشف عن حالة الهلع التي تعاني منها الأنظمة العالمية بعد ما رآه العالم من خلافات بين أعتى الأنظمة حول تأمين مستلزمات مثل الكمامات والأسرة وأجهزة التنفس.
وباء كورونا كشف عن مرحلة جديدة من "الاستقطاب الدولي" بين قوتين تنتميان إلى معسكرين مختلفين كل الاختلاف: الصين وأمريكا
يمكن هنا أن نستنج أن الدول الكبرى استغلت حالة التعاون المفترض لكي تطغى أكثر وتعزز من سطوتها على الدول متوسطة القوة والضعيفة، بحجة الانخراط في شبكة تعاونية هي ذاتها التي فضحت نموذج تبعية لا نموذج تعاون متبادل.
سيناريو نظام دولي متعدد الأقطاب
الحديث عن نظام دولي متعدد الأقطاب قائم في حقل العلاقات الدولية، إلا أنه لا يمكن تجاهل وجود عارض، وباء كورونا في حالتنا، يمكن أن يكون له أثر كبير على عملية توزيع القوى في النظام الدولي.
اقرأ/ي أيضًا: معرض يتبوري الأول.. عودة سلسلة "معارض الكتاب يجمعنا في أوروبا"
يرى حسين أن وباء كورونا كشف عن مرحلة جديدة من "الاستقطاب الدولي" بين قوتين تنتميان إلى معسكرين مختلفين كل الاختلاف، واحدة، الصين، تدين بالاشتراكية، بينما تدين أمريكا بالليبرالية التي تروّج للسوق الحرة والديمقراطية. لكن ما حققته الصين من ترويج إعلامي لكفاءتها المبهرة في الاستجابة للوباء وسرعتها في السيطرة عليه ضمن بروتوكول خاص استطاعت فرضه على العالم بدءًا من إغلاقات وحظر تجول وتطبيقات تعقب للمرضى وغيرها، كان لصالحها في الترويج لصورة الصين المتماسكة والقوية حتى في الداخل الغربي. تُبدي بكين رغبة صريحة بالتمدد في المعسكر الغربي الذي ظهرت عليه علامات التصدع بين حلفائه في ضوء انعدام الثقة بدور الولايات المتحدة الأمريكية، بوصفها قائدًا وحيدًا للعلاقات الدولية القائمة على التعاون الجماعي المفترض.
تسعى بكين إلى تأسيس نهج مختلف تمامًا عن النهج الليبرالي في العلاقات الدولية من جهة، ومختلف تمامًا عن نهج المعسكر الغربي في تعاطيه مع حالة مثل وباء كورونا. تعمل بكين اليوم على استغلال فقدان قرارات إدارة ترامب أهميتها في التصدي لوباء كورونا، لا سيما أن قرارات مثل تخفيض الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة إلى صفر بالمئة ورصد حوالي 3 تريليون دولار في خطة للتعافي من الوباء قد تبدو عالميًا قرارات خطيرة وجريئة، لكنها لم تؤتِ أكلها بعد ما شهدته الولايات المتحدة من عجز عن الخروج من الأزمة. مستقبلًا، ربما يكون العالم أمام نظام متعدد الأقطاب، لكن يبقى هذا التخمين حبيس الانتعاش الاقتصادي لكل من الولايات المتحدة والصين بشكل رئيس، دون أن نغفل رغبة أنظمة سلطوية تحكم دول مثل روسيا وإيران في فتح منافذ على قيادة العالم، ووضع يد في أي نهج من شأنه كبح جماح الولايات المتحدة الأمريكية في قيادتها للعالم.
اقرأ/ي أيضًا:
العدد 43 من "سياسات عربية".. صفقة القرن والحوكمة الرشيدة في تونس ومصر
نواف التميمي في محاضرة إلكترونية.. الماكينة الإعلامية وتفاعلات أزمة كورونا