نجحت الحركات السياسية الاجتماعية الحديثة في تحميل الجسم البشري رسائل متنوعة. قبل تسيّد أفكار هذه الحركات وأيديولوجياتها، كان الجسم يرسل رسائل عامة ومن دون تعيين: هذا ذكر وهذه أنثى، هذا طفل وهذه عجوز. وكان مرآه ومراقبته يبعث برسائل جنسية على الدوام.
يبدو الجسم المعاصر جسمًا صاخبًا لا يمكن الاقتراب منه من دون سماع لغوه وصراخه، ووحده صاحبه من يستطيع احتمال وجعه وتعبه وأنينه
مع ذلك ورغم غزارة الرسائل الجنسية ورسائل الإغواء، نحت المجتمعات، حديثها وقديمها، نحو تقنين الجنس ومنع انتشاره، فيما دأبت من جهة أخرى على نشر رسائله وما يحفز عليه. فتم حشر مكان الجنس وزمانه في غرف النوم وأوقات فراغ الشركاء من أعمالهم وواجباتهم، وبهذا تم تقنين الجنس في مقابل انتشار الحديث عنه على نحو فائض.
اقرأ/ي أيضًا: عن اعتياد الموت
ورغم أن المجتمعات، حديثها وقديمها أيضًا، غصّت، حتى الامتلاء، بالمحفزات الخارجية للجنس، إلا أنها كلها كانت تأتي، من خارج أجساد الشركاء، لوحات وصورًا وقصصًا وأفلامًا في ما بعد، وهذه كلها مثلها مثل الجنس كانت تحدث وتقع في أوقات الفراغ الخاصة، أي حين يكون المرء حرًا بوقته، ووحيدًا في حيزه الخاص.
النظر إلى لوحات العاريات في أي متحف من المتاحف الكبرى، يصرف اللوحة عن غايتها الأصلية التي رسمت لتلبيتها. فالعري، في هذا المجال المسوّر بآلاف الممنوعات، يلغي إيحاء اللوحة الأساس، أي يمنعها من الارتداد إلى أصلها بوصفها نسخة تحاول محاكاة الأصل الذي هو جسم الموديل التي رسمها الرسام. وتجعل الإيحاء ببشرية الجسم المرسوم متعذرًا، ما يحيل صورة الموديل – الأصل، إلى مجرد ألوان وخطوط. على أي حال لم تلبث الفنون أن اختصرت كل هذا التعب، ومحاولات توخي دقة الإيحاء والرد إلى الأصل الحي، واكتفت من الأصل ببعض الخطوط الهائمة في فضاء غامض وسديمي.
لقد استعاضت الفنون عن صورة الجسم بالفكرة عنه. ونقلت صور الأجسام الدالة إلى أصحابها البشريين باتجاه الغرف المقفلة مرة أخرى. بمعنى آخر، كان العري في الفنون منتشرًا بصورة أوسع حين كانت أحياز الإيحاء الجنسي أضيق. وما أن اتسعت هذه الأحياز حتى توارت صورة الجسم البشري إلى الغرف المقفلة.
رغم هذا التضييق إلا أن الجسم المغوي، ولزمن قصير خلا، كان لا يزال حاضرًا في شوارع المدن ومقاهيها وملاهيها، وفي الحفلات الخاصة والعامة. وكان مظهر الجسم الذي تفلت من قيود الستر والحجاب وانتشاره ينوب عن انتشار صورته في الأعمال الفنية. أي أن المجتمعات الحديثة إلى زمن ليس ببعيد، نقلت العرض من محترف الرسام إلى مصنع مصمم الأزياء، ونقلت اللوحة من المتاحف وصالونات الأثرياء إلى عرض الشارع وعريه المباشر.
لكن هذا كله مما لم يعد يمكن أن نلحظه اليوم. فالجسم المغوي الراهن بات ناقل رسائل مختلفة ومتنوعة. فهو في الساعة الثامنة صباحًا جسم سكرتيرة ذاهبة إلى عملها، وفي الخامسة مساءً، في طريق عودتها إلى المنزل، يكون جسمًا معطلًا عن الإغواء بالكامل، ويتحول إلى ثقل على صاحبه أو صاحبته يرغبان بالتخلص منه بأسرع ما يمكن.
أما في صباحات الآحاد والعطل والمناسبات فيكون جسمًا مستهلكًا بالنوم، لا يكلف صاحبه أو صاحبته نفسه عناء نفضه، أي النوم، عنه. وفي مثل هذه الأوقات، أي حين يحين موعد نزهة الكلب مثلًا، يختفي الجسم المغوي تمامًا، ويحل محله الكسل الذي هو نقيض الغواية ومانعها على الدوام. فكل غواية هي نشاط مفرط وكل كسل هو استسلام لطبيعة الجسم العضوية وفرادته التي لا تتقبل ملامسة الشريك.
نقلت المجتمعات الحديثة العرض من محترف الرسام إلى مصنع مصمم الأزياء، ونقلت اللوحة من المتاحف وصالونات الأثرياء إلى عرض الشارع وعريه المباشر
أجسامنا اليوم، في المدن الحديثة المكتظة خصوصًا، هي أجسام صاخبة. تعيش في صخب أعضائها المدوي. إعلانها الفج عن حقها بالتكاسل والاسترخاء، ورغبتها الصارخة في أن تترك وشأنها، وامتناعها المطلق عن دعوة الآخر إلى التماس معها.
اقرأ/ي أيضًا: شوارع دمشق: البكاء من سفعة برد
وبخلاف الأزمان السابقة، حين كان الجسم، المعتنى به والمستعد للغواية، يعيش في صمت أعضائه الموحي بسلامته وخلوه من الآثار التي يتركها عليه الوقت، يبدو الجسم المعاصر جسمًا صاخبًا لا يمكن الاقتراب منه من دون سماع لغوه وصراخه، ووحده صاحبه من يستطيع احتمال وجعه وتعبه وأنينه. وها نحن نخسر الإغواء الذي هو دعوة لحب الآخر ورغبة بالاتصال به، لنستعيض عنه بالرغبة الصرف التي نربيها وننميها في عزلاتنا عن العالم، ما يجعلنا مستعدين لتحويل أي علاقة حب إلى عملية اغتصاب.
اقرأ/ي أيضًا: