لم تعش الإنسانيّة لحظة تضامن مثل التّي تعيشها اليوم بسبب تفشّي فيروس كورونا. انتفتْ الحدود والمسافات، تراجعت الاختلافات والتأثيرات والتنوّعات، ولم يعدْ من معنى لثنائيّة الهنا/ هناك. فما يجري هنا هو عينه ما يحصل هناك؛ وهو ما أفقد المكان هويّته القديمة فتحوّل إلى فضاء مشترك يعتمل فيه معنى واحد هو الفزع بمشتقّاته العديدة.
تنصبّ الأنظار جميعها على هذا الكائن اللامرئيّ الذي يُزيل الحدود ويخترق بيوت العالَم، متجاوزًا الحكومات والسياسات
من المفارقات أنّ ما يقع اليوم هو الحلم الأزليّ للعولمة، التي طالما تطلّعتْ في نبوءاتها إلى مفهوم العالَم كقرية كونيّة واحدة بمصير موحّد تزول فيه الفوارق، وتختفي فيه القوميّات مقابل الالتفاف حول إرادة دوليّة واحدة. يبدو هذا الحلم وكأنّه قد تحقّق ولو ظرفيًّا، فالأنظار جميعها تنصبّ على هذا الكائن اللامرئيّ الذي يُزيل الحدود ويخترق بيوت العالَم، متجاوزًا الحكومات والسياسات، مستفيدًا من وسائل التواصل الاجتماعيّ ليسكن الأجساد ويعيد تشكيلها في أفق الخوف والفزع.
من أين جاء هذا الضيف الثقيل؟
لا أحد يمتلك الإجابة. يلتجأ البعض إلى نظريّة المؤامرة، يفترض صراعًا اقتصاديًّا/ عِلْميًّا بين القوى العظمى غايته السيطرة على مستقبل العالَم؛ خاصّة مع تبادل الاتّهامات "الخفيفة" بين الصين والولايات المتّحدة في ظلّ صمت روسيّ مريب وتخبّط أوروبيّ غريب. هذا الالتجاء طبيعيّ، يتماشى مع البعد الواقعيّ للحياة المعاصرة حيثُ لكلّ نِتاج أسباب تؤدّي إلى مآلات تتحقّق متى توفّرتْ شروطها.
اقرأ/ي أيضًا: ويكيبيديا العربية وفيروس كورونا.. فريق عمل مختصّ وتحديث على مدار الساعة
في المقابل، يلوذ آخرون بالفكر الأسطوريّ. ليستْ الأسطورة عيبًا ولا استنقاصًا فكريًّا، ارتبطتْ بدراما الموت وسلطة الغياب العدميّ منذ القديم. هذه الدراما تلازم أيضًا إنسان ما بعد الحداثة لأنّ الموت حتميّة ما تزال سارية في الحياة المعاصرة. حتميّة خفتتْ حدّتها بسبب الاندراج التامّ في الراهن المتسارع، لكن كان يكفي أن يقطع الفيروس إيقاع الحياة ويعطّل روتينها، حتّى يستعيد الإنسان مواجهته المُغيَّبَة مع الموت ويستدعي أبعادها الدراميّة في مسَرَحه المباشر حيثُ لا مُرشِد له سوى وحْيه الداخليّ.
بين المَدّ الواقعيّ والجَزْرِ الأسطوريّ، يواصل الفيروس مساره الإعلاميّ محوِّلًا الفضاءات الجماعيّة إلى مدن تسكنها الأشباح وتجول فيها الأطياف، مستفيدًا من المرجعيّات الهوليوديّة التي طالما شيّدتْ عوالَم افتراضيّة لنهايات العالَم. يتراجع مجال الإنسان من الكون إلى البلد، إلى المدينة، إلى الشّارع، إلى البيت، إلى جسده الخاصّ، إلى مخياله وأهوائه. يقلّص المسافات، يرفضُ مفاهيم الاجتماع والانفتاح (قسرًا وطوعًا)، يلوذ بالعزلة والانطواء والانغلاق على الذات (إلزامًا والتزامًا). ينعدم التواصل البشريّ ويستشري الاتّصال الفرديّ ضمن معنى واحد مهيمِن هو مجابهة الفزع؛ بينما تتزايد أخبار الضحايا، تتعالى نداءات الحجر الصحيّ، تتوقّف أساليب الترفيه في أرجاء العالَم ليبقى الفرد وحيدًا منتظرًا قدره المزعوم من وراء نافذة البيت.
هل الفيروس فعل بشريّ أو ردّة فعل الطبيعة؟
لا أحد أيضا يجيبُ عن هذا السؤال. الجميع ينخرط في المقاومة، يحاول قدر الإمكان تقليل الخسائر الصحيّة والاقتصاديّة، ينشر مزاعم احتمال النّجاح شرط الالتزام بـ"السّجن الانفراديّ" موقّتًا، لكن لا يحمّل طرفا بعينه المسؤوليّة ولا يقدّم إجابة، رغم أنّها تحدّد الكثير وتغيّر المعطيات. وقد قيل: إن عُرِف السّببُ بطل العجب. فهل هناك هدف غائب أو مغيَّبٌ من استمرار العجائبيّة واسترسال الغرائبيّة في التعاطي مع الأزمة؟
علينا أن نوضّح صورة الإعلام الحديث الذي فَقَد شعاره القديم: الخبر مقدّس والرّأي حرّ. ثمّة شعار جديد يسري منذ عقود مفاده: القصّة الناقصة، وهو يعوّل على ترك قطع مفقودة في الحدث يبحثُ عنها المتقبّل بنفسه ليكمل القصّة وبذلك يسهل عليه تبنّيها، واعتماد إنجازه الفرديّ كحقيقة لا تحتمل التحوير. على سبيل التسلية مثلًا: منذ أسابيع رفعتْ جماهير بيارن مونيخ وبروسيا درتموند شعارات مناهضة لمالك نادي هوفنهايم الألماني "ديتمار هوب" لأسباب استثماريّة في كرة القدم.
لا تملك البشريّة إلّا أن تنتظر، أمّا الشعوب فقدْ فقدتْ في هذه الأزمة حقّها في تقرير المصير
نفس المالك هو المستثمر الأوّل في شركة مختصة في تطوير علاجات ضد السرطان، والأمراض النادرة، واللقاحات الوقائية؛ قايضها مؤخّرًا الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب لاحتكار دواء مضادّ لفيروس كورونا المستجدّ. هذا مثال من أمثلة كثيرة على القصص الناقصة التي تُلازِم التعاطي الإعلاميّ المعاصر لذلك علينا ألّا نراهن على معرفة السّبب لإزالة العجب. كلّ ما علينا فعله هو انتظار التوجّهات التي ستظهر ملامحها قريبًا.
ما هي التأثيرات المنتظرة؟
تحدّث البعض عن فلسفة اللّامرئيّ في سريان الفيروس. لا يبدو هذا الأمر جديدًا لأنّ اللّامرئيّ – وإن غُيّب – ليس غائبًا فهو موصول تلقائيًّا وبديهيًّا بالإنسان، سواء في مستوى اللّغة أو الذاكرة أو التمثّل؛ كما أنّ الإدراك الشعوريّ لحقيقة الموت الدائمة يجعله كائنًا في صلب الرّهان الوجوديّ. وإن تراجعتْ حدّة حضور اللّامرئيّ في الحياة المعاصرة بسبب تدفّق الصورة والكثافة الماديّة للقطاع السمعيّ البصريّ، فإنّ ذلك لا يلغي استمراريّة اعتماله.
اقرأ/ي أيضًا: فيروس كورونا يهدد الشمال السوري.. احتمالات مفتوحة على الكارثة
في رأينا أنّ التأثير المستقبليّ يرتبط بدائرة الفواعل. فإن كان ما يقع ردّة فعل مأتاها الطبيعة، لذا سيحمل القادم ممكنات تعايش جديد على أساس التجربة الإنسانيّة المشتركة، التي تقوم الآن بالفصل بين المهمّ والأهمّ وتبني حميميّة مغايرة للفرد بجسده وبالآخر تضعه في قطب السيكولوجيا. أمّا إذا كان فعلًا بشريًّا قصديّا، فذلك يعيدنا مجدّدًا إلى العولمة ونبوءتها عن نهاية التاريخ. ولا علاقة لهذه النهاية بالقيامة الدينيّة أو نهاية الزّمان؛ فنحنُ نسيء دومًا فهم المصطلحات ذلك أنّ التاريخ ليس من طبيعة زمانيّة. إذا ما حضر القصد المعرفيّ في مسار الحدث المشترك فهذا يعني نهاية إنسان ما بعد الحداثة وسقوط السوسيولوجيا، مقابل ولادة الروبوت و"الريموند كنترول". ضمن هذا الإطار نشير إلى أنّ الصين ما تزال مسترسلة في مشروعها التقنيّ للجيل الخامس (5G) بما يحمله من رهانات مثيرة.
ثمّ ماذا؟
لا تملك البشريّة إلّا أن تنتظر، أمّا الشعوب فقدْ فقدتْ في هذه الأزمة حقّها في تقرير المصير.
اقرأ/ي أيضًا: