10-أغسطس-2023
لوحة لـ أسامة دياب/ فلسطين - سوريا

لوحة لـ أسامة دياب/ فلسطين - سوريا

تعادلُ حاجةُ كل منا إلى حلم شخصي حاجةَ الأشرعة إلى ريح، فدون ذلك الحلم لن يُحدّد الإنسان سمتًا، وسيظل يسير (الأصح يُسيَّر) ارتجالًا أو مصادفة.

أجمل ما في الحلم الشخصي أنه متنوّع، فحتى لو أن فتاتين أرادتا أن تصيرا رسامتين، أو صبيين سعيا إلى أن يصبحا مغنيين، لبدا كلُّ حلم حلمين، وكل قصة سعي وراءه قصتين، لأنّ الأحلام تتلوّن بألوان الأشخاص، وتتخذ أشكال مشاعرهم، وبذلك تُبعد الأحلام أصحابها عن التشابه.

الإنسان صورة حلمه، والحلم بيت إنسانه.

في الأدب الكلاسيكي، نعثر طوال الوقت على شخصيات مترعة بطموحها وحلمها، الذي يبلغ في بعض الأحيان مبلغًا خطيرًا، كأن يوكل صاحبه بمهمة تطهير العالم، مثلما فعل بطل رواية "دون كيخوته"، أو مثلما فعل الصياد الكوبي سانتياغو في رواية "الشيخ والبحر" حينما تحدّى وصمّم، أو كما سارت رحلة انتقام الفتاة المتمردة ليزابيث سالاندر ضد أعدائها في ثلاثية "ميلينيوم"، خصوصًا حين أصرت على أن تغدو غنيةً كتعويض عن كل ما حاق بها من عسف وجور.

صغيرًا كان العالم في ما مضى لكنْ بأحلام كبيرة وكثيرة، وكبيرًا صار العالم مع ما أتى لكنْ بأحلام صغيرة وقليلة، إلى الحدّ الذي يستدعي الشكّ لا في حجم عالمنا الآن، بل في فكرتنا عنه وعنا

ومثلما يمدنا الأدب بمثل هذه النماذج المُتخيَّلة، فإن التاريخ يفيض فيضانًا بهم، من الأنبياء والقديسين والفرسان والمشاغبين.. ونكاد لا نجد شخصًا ذا أثر أو مكانة دون أن نعثر على أسباب واضحة ومباشرة لحلمه الشخصي في صناعة ذلك الأثر، أو توطيد تلك المكانة.

وعلى هذه الخلفية الكبيرة من الأحلام والمطامح والسعي في المجال الإنساني الشخصي، يمكن أن ننطلق إلى المجال الجمعي، لكننا هنا لن نتحدث عن أفراد بل عن أزمنة مصنوعة بالأمنيات والتطلعات، كما نستطيع أن نتحدث بالمثل عن بلدان مصنوعة من تلك المواد أيضًا.

وإذا مثّلنا للأولى بالزمن الذهبي لليسار، حين حلمَ العالم بالتحول إلى مكان للحرية والعدالة، لا جنةً للشركات والمال والحروب؛ فإننا سنُمثّل للثانية بمدن مثل قاهرة عام 2011، أو باريس زمن الثورة الطلابية، ففي المكانين انطبع حلم التغيير كعلامة فارقة مثل بصمة الأصابع وزمرة الدم.

ما الذي يمكن أن يقال عن تلك الحقب والأمكنة لولا دمغة أحلامها؟ لا شيء، لا كلام، لأنه ما من خصوصية.

ومثلما يجعل الحلم الفردي الإنسان شديد الفرادة في شخصه وحضوره، فالحلم الجماعي يُكسب الزمان والمكان معاني جديدة تضيف إليهما أوصافًا لم تعرفها قواميس الوقت ولا أطالس الجغرافيا.

ومن المحزن أن الطموح والتطلع والاندفاع نحو هدف معنوي راح يشهد نكوصًا مع الوقت في عالمنا، إلى أن وصلنا إلى حال من التشابه، فالأغلبية يحملون بالشهرة والمال، مع ما يرتبط بهذين من صحة وجمال ولياقة ونفوذ.

المشكلة أن ذلك لم يتوقف عند حدّ معين حتى نعده مرحلةً ذات طابع محدد، أو ظاهرة عابرة، بل راح يتقدم جارفًا معه أحلام الحب والصداقة، والسعي نحو الحرية والعدالة والإنصاف. وسوف يصبح بذلك تعبيرًا عن سقوط الهوية الإنسانية عنا، وتحوّلنا إلى آلات عرض واستعراض لا هم لنا، ولا محفّز أو محرّك، سوى أن نحظى بالقدرة المالية والانشهار، غير مبالين بأي دور اجتماعي يمكن لأي أحد منا أن يلعبه غير القليل من عمل خيري يكفي لرفع العتب.

حين فقد الإنسان طموحه تهاوت معه سلسلة واسعة من القيم، فلم يعد يؤمن بأن الحب قابل ليكون شكلًا أساسيًّا للحضور في العالم، ولا أن الصداقة تعبيرنا الأمثل عن لقاء الذات بالآخر.

وعلى أثر هاتين الخسارتين بشكل خاص، راح يفقد شعوره بالتضامن مع الغير والسوى، وبدأ يشعر، شيئًا فشيئًا، أن وجود طبقات ضرورة، وأن البشر لا يجب أن يكونوا متساوين لأن فيهم الاستثنائيّ القادر على انتزاع الفرص، مثلما فيهم العادي، أو حتى من هم أقل منه بدرجة أو عشرة؛ وهؤلاء ينبغي أن يبقوا مثلما هم، في المستوى ذاته، وفي الحد الأدنى من كل شيء طعامًا ودواءً، لأنهم لا يمتلكون الجاذبية التي حظي بها الإنسان الاستثنائي.

لا عجبَ أنه ما من مكان للآخرين، بعدما صارت الأنانية أقرب ما تكون إلى الأيديولوجيا، في الحياتَيْن الشخصية والجمعية.

ولا عجب أيضًا تناقص حضورُ التضامن مع تناقصِ حضور الآخرين، الذي حدث بالترافق مع تراجع هائل في مدى أهمية الآخر في حياتنا، ومدى صلاحية التضامن للبقاء على قائمة الأولويات.

صغيرًا كان العالم في ما مضى لكنْ بأحلام كبيرة وكثيرة، وكبيرًا صار العالم مع ما أتى لكنْ بأحلام صغيرة وقليلة، إلى الحدّ الذي يستدعي الشكّ لا في حجم عالمنا الآن، بل في فكرتنا عنه وعنا.