08-أغسطس-2023
كاريكاتير لـ بافل كونستانتين/ رومانيا

كاريكاتير لـ بافل كونستانتين/ رومانيا

يهتف المتظاهرون "علّي في سور السجن وعلّي، بكرة الثورة تشيل ما تخلّي". تحيطنا الأسوار والحواجز أينما ذهبنا، لا أقصد الأسوار المجازية بمعنى القيود الفكرية، بل أعنيها حرفيًا، الأسوار المادية الملموسة، فلماذا ترتبط في المخيلة الشعبية بالسجون حصرًا؟

ميدان رمسيس (باب الحديد سابقًا)، أحد أهم وأشهر ميادين القاهرة وأكثرها ازدحامًا، نظرًا لموقعه الجغرافي في وسط القاهرة وقربه من ميدان التحرير، ووجود محطة القطار في مواجهة الميدان. أيضًا طالما شهد الميدان مع امتداد شارع رمسيس التظاهرات والاحتجاجات والاشتباكات بين المتظاهرين ورجال الأمن، وهناك واقعة شهيرة بأحداث رمسيس أو مسجد الفتح راح ضحيتها عشرات المصريين على أقل تقدير، وتوجد قضية سياسية تحمل نفس المسمّى الإعلامي، قضية رمسيس أو قضية مسجد الفتح، وهو المسجد الكبير المُطل على الميدان، الذي وقعت حوله الاشتباكات بعد يومين فقط من أحداث فض ميدان رابعة العدوية 14 أغسطس/ آب 2013 التي تحل ذكراها بعد أيام.

الهدف من بناء هذه الحواجز كلها هو الغرض اللاشعوري لأصحاب السلطة في السيطرة التامة على المجتمع وقولبته، ومحاولة خلق نماذج مكررة ومبرمجة حسبما يقتضي تأمين الحكم

لماذا أسرد هذه المقدمة؟ لأنني أسير في الميدان وأحاول عبور الطريق إلى الناحية الأخرى، لكن تمنعني الحواجز الحديدية المطليّة باللون الأخضر القاتم، والتي كل مهمتها أن تمنع المارة من العبور، أن تمنع من هو فوق الرصيف عن النزول إلى الشارع، ومن هو في الشارع عن الصعود إلى الرصيف، وتجبر عشرات الآلاف من البشر يوميًا على السير في طوابير وصفوف طويلة للخروج أو الدخول إلى ممرات المشاة.

ربما يكون الغرض من هذه الحواجز الحديدية تنظيميًا، للتحكم في حركة المارة وتقليل حوادث المرور، خاصة وأن الميدان كما ذكرنا مكتظ دومًا بالبشر من أنحاء المعمورة، ولكن هذه الحواجز لا تؤدي هذه المهمة، بل تصبح عائقًا إضافيًا للمارة الذين يختار بعضهم القفز من فوق السور للوصول إلى مبتغاه في أسرع وقت، بينما يفترش الأرصفة أصحاب المحال والباعة الجائلون لعرض بضائعهم ويعيقون حركة السير أكثر وأكثر.

حاولت الوصول إلى أي معنى أو فكرة من حرص الدولة المصرية على إقامة هذه الحواجز حتى في بعض الميادين غير الهامة وغير المزدحمة، لماذا تحرص الدولة على تقييد حركة المشاة؟ وتوصلت إلى هدفين، الأول أمني بالأساس والثاني لا شعوري

في إحدى فعاليات الثورة المصرية، المعروفة بأحداث محمد محمود نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، تواجدتُ ضمن الصفوف الأولى عندما هجم علينا عساكر الأمن وبدأنا في الفرار إلى الخلف، يجري الجميع في اتجاه واحد محاطين بالحواجز الخضراء التي حدّت من حركتنا وضيّقت من مساحة الطريق وسهّلت على الأمن المطاردة وزادت من فرصهم في القبض على المتظاهرين المتأخرين، تسببت الحواجز في بطء الحركة الجماعية للمحتجين، أشبه قديمًا في تكتيكات الحروب باختيار القادة العسكريين لساحة قتال ممر بين جبلين أو في منطقة ضيقة نسبيًا تُضعف من فعالية الأكثرية أو العامل العددي للعدو.

أمّا الهدف الآخر لبناء هذه الحواجز، ربما هو الغرض اللاشعوري لأصحاب السلطة في السيطرة التامة على المجتمع وقولبته، ومحاولة خلق نماذج مكررة ومبرمجة حسبما يقتضي تأمين الحكم، وهذه الأسوار مجرد أداة واحدة ضمن العديد من الأدوات المستخدمة للوصول لهذا الهدف، ليس إلا انعكاسًا لفلسفة الأسوار التي تفرضها الدولة على المواطنين منذ الطفولة، تكريس الشعور بأن الشخص دومًا داخل نوع من السجون.

أدركت توًا لماذا لم أحب الدراسة الأكاديمية في مصر، لم أحب المدارس ولا الجامعات، فهي التجلي الأعظم لهذه الفكرة، لماذا تُبنى المدارس بأسوار عالية وأسلاك شائكة تمنع الطلاب من الهرب! ترسيخ الشعور بأنك دومًا محاصر ومحاط بالأسوار وتحت التهديد وممنوع من حرية الحركة وممنوع من الهرب، كذلك الجامعات أيضًا، أسوار عالية وبوابات مخصصة للدخول والخروج، رغم أنه من المفترض المرحلة الجامعية هي مرحلة النضج وحرية الاختيار، لا أحد مجبر على الذهاب إلى الجامعة كما الأطفال في المدارس، فلماذا تحيطوننا بالأسوار؟

ومن الشوارع إلى الجامعات ومن الجامعات إلى دور العبادة ومن دور العبادة إلى المدن الجديدة والتجمعات السكانية، أينما ذهبنا تحيطنا الأسوار حتى حين نذهب للصلاة ومناجاة الله، شكل من أشكال الرقابة التي ترسخها الدولة في العقول، لنصبح تلقائيًا منقادين للأوامر.

أدرك فريق الروك الإنجليزي بينك فلويد هذا المعنى وحاول التعبير عنها في أغنية another brick in the wall، سبعينات القرن الماضي، ورغم ذلك ما زالت القيود والأسوار تزداد من حولنا، بل أن البعض يُفضّل أن يلجأ إليها كشعور وهمي بالأمان، فالتجمع السكني المسوّر يحمي ساكنيه من غوغاء الخارج، والجامعة الراقية تمنع عموم الشعب من الاختلاط بطلابها المختارين، فلنسجن أنفسنا ونحيطها بالجدران بحثًا عن الحرية.