خلال الثمانية عشر يومًا التي فصلت بين قيام الثورة المصرية في الخامس والعشرين من يناير 2011 وتنحي الرئيس الراحل حسني مبارك، خرج اللواء عمر سليمان، رئيس المخابرات الأسبق، والذي كان قد تولى لتوّه منصب نائب رئيس الجمهورية، في حوار مع قناة "أيه بي سي" الأمريكية مطالبًا المتظاهرين والمعتصمين بالعودة إلى منازلهم، وقال الجملة التي يذكرها الجميع حتى اليوم إن المصريين ليسوا مؤهلين بعد للمديقراطية.
كان نظام حسني مبارك يرى أن المصريين ليسوا مؤهلين للديمقراطية بعد، دون أن يشكك بها، كما يفعل نظام عبد الفتاح السيسي
كان هذا هو المبدأ الذي يحكم تفكير نظام مبارك ورجالاته، وخرجت تنظيرات وتصريحات في السنوات العشر الأخيرة من عمر النظام تدعم هذا التوجه وتروج له، كما عبر عنه رئيس الوزراء الأسبق أحمد نظيف أيضًا بصيغة أخرى حين قال: "مصر غير جاهزة للديمقراطية".
اقرأ/ي أيضًا: الصحافة.. جريمة!
لم يشكك أحد من هؤلاء يومًا في الديمقراطية كنظام حكم ناجح، بل السردية الرسمية التي تؤكدها كتابات الدائرين في فلك نظام مبارك والأصوات المعبرة عنه، كانت تقوم على أن الديمقراطية نظام جيد نعم، لكن الأرض لم تُمهد بعد لتطقبيها عندنا، ونحن نسعى ليحدث ذلك قريبًا.
لم يكن المصريون وهم يثورون على أصحاب هذه التصريحات والقناعات يدركون أنهم سيستبدلونهم بمن لا يرون الديمقراطية نظام حكم جيد أصلًا! وضح ذلك في تصرفات نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، منذ تولى السلطة في 2014، وعملت آلة الإعلام على تشويه الديمقراطية والتشكيك فيمن يطالب بتطبيقها، ولم يتوقف الأمن على مدار 6 سنوات عن ملاحقة أي محاولة لإحيائها، حتى توج رئيس البرلمان علي عبد العال هذه القناعة الصامتة بجملة قاطعة، فقال أثناء مناقشة قوانين الانتخابات في مجلس النواب: "هناك خلاف عالمي حول الديمقراطية كنظام انتخابي أصلًا، والبعض يراها أسوأ الأنظمة، وهناك أوراق بحثية تبشر بأنظمة سياسية جديدة".
لم يصرح على أي مستوى تدور هذه النقاشات، ولا من هذا الذي يراها نظامًا فاشلًا، ولا ماهية الأنظمة الجديدة التي يمكن أن تكون بديلًا عنها، لكن في كل الأحوال وبصرف النظر عن صحة هذا الكلام فالأكيد أن الأنظمة البديلة التي تعمل عليها الأنظمة البحثية لن تكون كالنظام المتبع في مصر حاليًا!
لا جديد في الأمر سوى أن التصريح بدأ يحل محل التلميح، لكن الثابت أن سياسات النظام الحالي تعكس كراهية واضحة للديمقراطية كنظام سياسي، بل وللسياسة بشكل عام. السيسي نفسه قال في مطلع 2018: "أنا مش سياسي.. بتاع الكلام".
هناك اعتقاد واضح بأن الديمقراطية معطِلة للإنجاز، والسياسة تأتي بالخراب، وأن نموذج الحكم المناسب لدولة مثل مصر أن تكون هناك حكومة مركزية قوية تفعل ما تراه مناسبًا دون مشاركة أو محاسبة. هناك يقين كامل أن ما حدث في 2011 سببه هامش الحرية الذي منحه مبارك للمجتمع منذ 2005، حين سمح بتمثيل أكبر للمعارضة وسقف أعلى للإعلان وحرية أكبر للمنظمات الحقوقية، فكان هؤلاء الشرارة التي أشعلت الثورة ضده بعد 6 سنوات.
لا يهم أنهم يشيرون في كل مناسبة إلى ميراث الثلاثين عامًا من الفساد، لا يهم أن الديمقراطية لم تأخذ فرصة واحدة في مصر أصلًا، ولا حتى في الفترة بين 2011 و2013، لا يهم أنه في الست سنوات الأخيرة وفي غياب الديمقراطية ارتفعت نسبة الفقر وتدهورت خدمات الصحة والتعليم وزادت الأخطار الخارجية، فيمكن تحميل مسؤولية كل ذلك للثورة سابقًا ثم لفيروس كورونا لاحقًا.
لم تكن الديمقراطية يومًا هي المشكلة، ولا تؤدي الديمقراطية بثورات شعبية. الثورات تأتي أصلَا نتيجة غياب كل أدوات التغيير الأخرى التي توفرها الديمقراطية، بحيث يكون التحرك الشعبي وحده هو الحل. لا يعني ذلك أن الديمقراطية نموذج حكم كامل لا يأتيه الباطل ولا يشوبه عوار، لكن الأكيد أنها حتى الآن نظام الحكم الأكثر نجاحًا، يبقى فشل الدول فيه استثناء، كما يبقى نجاحها في الأنظمة الشمولية المستبدة استثناءً.
في بداية حكم السيسي كان هناك قناعة من نخب كثيرة أنه مضطر للحكم بهذه الطريقة نظرًا للأخطار الكثيرة التي كانت محدقة بالدولة وقتها وأنه مع الوقت سيفتح المجال أكثر لحياة سياسية أكثر انفتاحًا، لكن ما حدث هو العكس، فالأمر في 2015 أفضل من 2017، وحالة التضييق في 2017 أفضل بمراحل مما هي عليه الآن، حيث لا مجال للتنفس ولا أفق للتغيير ولا نية للإصلاح.
مرر مجلس النواب قانون الانتخابات عن طريق القوائم المغلقة، تلك الطريقة التي تضمن للدولة سيطرة كاملة على اختيارات مجلس النواب المقبل، وفي ظل انشغال الجميع بكورونا تتسارع الخطوات الرامية لتثبيت الوضع على ما هو عليه لسنوات أخرى كثيرة، حيث رئيس أبدي، ومؤسسات شكلية، ودستور مهجور.