على عكس معظم الدول الأوروبية، تبقى نسبة الوفيات في ألمانيا بسبب تفشي فيروس كورونا المستجد منخفضة جدًا، مع نظام صحي من الأفضل في العالم. لكن هناك أسباب أخرى بالتأكيد، يوضحها التقرير التالي المترجم عن صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية.
يسمونها تاكسي الكورونا: مسعفون يرتدون بذلات ومعدات واقية، ويقودون سياراتهم في الشوارع الخالية لمدينة هايدلبرغ لمتابعة المرضى في منازلهم، بعد خمسة أو ستة أيام من تشخيص إصابتهم بفيروس كورونا الجديد.
على عكس معظم الدول الأوروبية، تبقى نسبة الوفيات في ألمانيا بسبب تفشي فيروس كورونا المستجد منخفضة جدًا، مع نظام صحي من الأفضل في العالم
يأخذون عينات من الدم باحثين عن إشارات على تدهور حالة المريض. ربما يقترحون عليه الذهاب إلى المستشفى حتى لو لم تظهر عليه سوى أعراض طفيفة. فرص النجاة من هذا التدهور تزداد كثيرًا إذا كان المريض في المستشفى حين بدايته.
اقرأ/ي أيضًا: بدء أول تجربة على البشر للقاح ضد فيروس كورونا
قال الأستاذ الطبيب هانز جورج كرويسليش، رئيس قسم الأوبئة في مستشفى جامعة هايدلبرغ إحدى المستشفيات البحثية الرائدة في ألمانيا: "هناك نقطة تحول في نهاية الأسبوع الأول. إذا كان المريض شخصًا معرضًا للإصابة بفشل رئوي، ستبدأ حالته بالتدهور في هذه الفترة".
تاكسي الكورونا في هايدلبرغ هو مثال واحد فقط على المبادرات الكثيرة في المدينة. لكنه يظهر مستوى الاهتمام والالتزام وتخصيص الموارد العام في محاربة الوباء، ما قد يكون المفتاح لتفسير واحد من أكثر ألغاز الجائحة إثارة للحيرة: لماذا ينخفض معدل الوفيات في ألمانيا؟
أصاب الفيروس ومرض كوفيد 19 الناتج عنه، ألمانيا بقوة. وفقًا لجامعة جون هوبكنز بلغ عدد الإصابات في البلاد 92 ألف حالة حتى منتصف يوم السبت 4 نيسان/أبريل، ما يضعها في المركز الرابع بعد الولايات المتحدة وإيطاليا وإسبانيا.
لكن مع بلوغ عدد حالات الوفاة 1.295 شخصًا، لا يجاوز معدل الوفيات في ألمانيا نسبة 1.4%، في مقابل 12% في إيطاليا، و10% في إسبانيا وفرنسا وبريطانيا و4% في الصين، و2.5% في الولايات المتحدة. وحتى كوريا الجنوبية التي تعد مثالًا ناجحًا على احتواء الوباء وتسطيح المنحنى بلغ معدل الوفيات فيها 1.7%.
قال الأستاذ هندريك ستريك مدير معهد الأوبئة بمستشفى بون الجامعي: "يسري حديث عن الاستثناء الألماني بهذا الخصوص". تلقى ستريك مكالمات عدة من زملاء له في الولايات المتحدة وأماكن أخرى. يقول "يسألونني ما الذي تفعلونه على نحو مختلف. لماذا معدل وفياتكم منخفض هكذا؟".
هناك عدة أجوبة على هذا السؤال بحسب الخبراء، وهي خليط من الانحرافات الإحصائية واختلافات حقيقية في كيفية تعامل ألمانيا مع الوباء. متوسط أعمار المصابين في ألمانيا أقل من دول كثيرة أخرى. التقط كثير من المصابين الأوائل الفيروس من منتجعات التزلج في النمسا وإيطاليا وكان معظمهم صغير السن نسبيًا، بحسب الأستاذ كرويسليش.
يقول "بدأ التفشي بين المتزلجين". ومع انتشار العدوى، أصيب مزيد من كبار السن بالمرض وارتفع معدل الوفيات الذي لم يجاوز 0.2% قبل أسبوعين. لكن متوسط عمر المصابين يظل منخفضًا نسبيًا، فقد بلغ 49 عامًا، مقارنة بفرنسا 62.5 عامًا وإيطاليا 62 عامًا، وفقًا لآخر التقارير الوطنية الصادرة عن هذه الدول.
وأحد التفسيرات الأخرى لانخفاض معدل الوفيات هو إجراء ألمانيا لفحوصات أكثر من أي دولة أخرى. مما يعني أنها تسجل مصابين أكثر لمن لم تظهر عليهم الأعراض أو من يعانون من أعراض طفيفة، مما يزيد من عدد الحالات المسجلة، دون زيادة في أعداد الوفيات. يقول كرويسليش: "يقلل هذا الأمر من معدل الوفيات على الورق".
لكن خبراء الأوبئة والأمراض المعدية يقولون إن هناك عوامل طبية مهمة أبقت معدل الوفيات في ألمانيا منخفضًا نسبيًا، وأبرزها التوسع في إجراء الفحوصات مبكرًا، وتوفر عدد كبير من أسرة العناية المركزة والثقة الشعبية في الحكومة التي لاقت التعليمات التي طرحتها بخصوص التباعد الاجتماعي استجابة واسعة.
الاختبار
في منتصف كانون الثاني/يناير، وقبل أن يسمع كثير من الألمان عن الفيروس، طور مستشفى شاريتي في برلين اختبارًا للكشف عن الفيروس ونشرت صيغته على الإنترنت. وحين سجلت ألمانيا أول إصابة لديها بكوفيد 19 في شباط/فبراير، كانت المعامل في جميع أنحاء البلاد قد جهزت مخزونها من معدات الاختبار.
قال الدكتور كريستيان دروستن، رئيس قسم الأمراض المعدية بمستشفى شاريتي والذي طور فريقه أول اختبار، إن "هناك سببًا لانخفاض عدد الوفيات في ألمانيا حتى هذه اللحظة مقارنة بعدد المصابين، ألا وهو العدد الكبير للغاية من الفحوصات المعملية".
في الوقت الحالي، تجري ألمانيا 350 ألف فحص كورونا في الأسبوع، وهو عدد أكبر بكثير من أي دولة أوروبية أخرى. سمح الفحص المبكر واسع النطاق للسلطات بإبطاء انتشار الوباء عبر عزل الحالات المصابة. ومكنت من تقديم العلاج المنقذ لحياة المرضى في الوقت المناسب.
قال الدكتور كرويسليش: "حين نشخص الحالات مبكرًا ونتمكن من تقديم العلاج للمرضى مبكرًا، كوضعهم على أجهزة التنفس الاصطناعي قبل أن تتدهور حالتهم على سبيل المثال، تصبح فرص النجاة أكبر بكثير".
لقد تم فحص أفراد الطاقم الطبي الأكثر عرضة لالتقاط العدوى ونشرها، بانتظام. ولتسهيل العملية أجرت بعض المشافي فحوصات لعينات عشوائية مُمثِلة، مستخدمة عينات من 10 موظفين ثم تتبعها باختبارات فردية إذا ظهرت نتيجة إيجابية.
تخطط السلطات الصحية في البلاد إطلاق دراسة موسعة على الأجسام المضادة في نهاية نيسان/أبريل، وستفحص فيها عينات من 100 ألف شخص في كل أنحاء ألمانيا كل أسبوع لقياس الأماكن التي تظهر فيها مناعة بين السكان.
يقول ستريك إن أحد العوامل الأساسية في ضمان إجراء فحوصات واسعة النطاق هو جعلها مجانية. هذا هو أحد الفروق الجوهرية بين ألمانيا والولايات المتحدة في الأسابيع الأولى من تفشي الوباء، على حد قوله. يقدم قانون إغاثة فيروس كورونا الذي مرره الكونغرس الشهر الماضي التمويل اللازم لإجراء اختبارات مجانية للمرضى. يقول ستريك: "من غير المرجح أن يذهب شاب لا يملك تأمينًا صحيًا ويعاني من التهاب في الحلق إلى الطبيب مخاطرًا بنقل العدوى لأشخاص آخرين".
التعقب
في أحد أيام الجمعة في أواخر شهر شباط/فبراير، تلقى الدكتور ستريك خبرًا بأنه لأول مرة، ظهرت نتيجة فحص أحد المرضى في مستشفى بون ايجابية لفيروس كورونا. شاب يبلغ من العمر 22 عامًا، لم تظهر عليه أية أعراض لكن مديره في المدرسة التي يعمل بها طلب منه إجراء الفحص بعد علمه بأنه شارك في مهرجان كان به شخص مصاب.
في معظم الدول، يقتصر الفحص على المرضى الذين تظهر عليهم أعراض شديدة. لكن ليس في ألمانيا. فما إن ظهرت نتيجة الفحص حتى أغلقت المدرسة وطلب من جميع الأطفال والعاملين فيها البقاء في المنزل مع عائلاتهم لمدة أسبوعين. وأجري الفحص على 235 شخصًا منهم.
يقول الدكتور ستريك "أثبتت استراتيجية الفحص والتعقب نجاعتها في كوريا الجنوبية وقد حاولنا التعلم منها". وتعلمت ألمانيا كذلك من أخطائها المبكرة، فبحسب ستريك كان عليها أن تطبق استراتيجية التعقب بحدة أكبر. كان على ألمانيا أن تتعقب كل العائدين من منتجع التزلج ايشجل في النمسا والذي تفشى فيه الوباء، وفحصهم.
نظام عام قوي للرعاية الصحية
قبل اجتياح الوباء لربوع ألمانيا، كان المستشفى الجامعي في جيسن يمتلك 173 سريرًا للعناية المركزة مجهزة بأجهزة تنفس اصطناعي. في الأسابيع الأخيرة سعى المستشفى لتوفير 40 سريرًا آخر وزاد من عدد أفراد الطاقم المستعد للعمل في العناية المركزة بنسبة 50%.
قالت سوزان هيرولد أخصائية أمراض الرئة في المستشفى والتي أشرفت على إعادة تجهيزه: "لدينا سعة كبيرة الآن لدرجة أننا نقبل مرضى من إيطاليا وأسبانيا وفرنسا. نحن أقوياء جدًا في مجال العناية المركزة".
وقد زادت المستشفيات في كل أنحاء ألمانيا من قدرتها الاستيعابية وعدد أسرة العناية المركزة لديها. وقد بدأوا في الأساس من مستوى مرتفع. كان لدى ألمانيا قبل الوباء 28 ألف سرير للعناية المركزة مجهزة بأجهزة تنفس اصطناعي، أي 34 سريرًا لكل 100 ألف من السكان. في المقابل كان لدى إيطاليا 12 سريرًا لكل 100 ألف ولدى هولندا 7 أسرة لكل 100 ألف. والآن وصل عدد أسرة العناية المركزة المتاحة في ألمانيا إلى 40 ألف سرير.
يتوقع بعض الخبراء المتفائلين بأن تسهم إجراءات التباعد الاجتماعي على تسطيح المنحنى في ألمانيا بما يسمح لنظام الصحة الألماني بالتعامل مع الوباء دون أن يواجه ندرة في المعدات المنقذة للحياة مثل أجهزة التنفس الاصطناعي. قال الدكتور ستريك: "من المهم أن يكون لدينا تعليمات معينة للأطباء حول كيفية ممارسة الاختيار بين المرضى إذا اضطروا لذلك. لكني آمل أن لا نضطر لاستخدامها أبدًا".
تباطأ عدد الأيام التي يتضاعف فيها عدد المرضى إلى 8 أيام، وإذا وصل المعدل إلى 12 و14 يومًا، تقول هيرول إن ألمانيا ستتجنب هذا الاختيار، بحسب نماذج المحاكاة. تقول: "لقد بدأ المنحنى في التسطح".
اقرأ/ي أيضًا: ما وراء المساعدات الروسية لإيطاليا.. كيف تستثمر موسكو جائحة كورونا؟
ثقة في الحكومة
وبعيدًا عن الفحوصات الموسعة وجاهزية النظام الصحي، يرى كثيرون بأن قيادة المستشارة أنجيلا ميركل للأزمة هي أحد أسباب انخفاض معدل الوفيات. تواصلت ميركل مع الجمهور بوضوح وهدوء وبانتظام على مر الأزمة، وأثناء فرضها لإجراءات تباعد اجتماعي على البلاد. القيود التي ساهمت في إبطاء انتشار الفيروس، لم تلق معارضة سياسية تذكر والتزم بها عموم الناس. وارتفعت معدلات شعبية ميركل ارتفاعًا حادًا.
بعيدًا عن الفحوصات الموسعة وجاهزية النظام الصحي، يرى كثيرون بأن قيادة المستشارة أنجيلا ميركل للأزمة هي أحد أسباب انخفاض معدل الوفيات
يقول الدكتور كرويسليش: "لعل أكبر نقاط القوة لدى ألمانيا هي عملية اتخاذ القرارات العقلانية لدى أعلى مستويات الحكومة مقرونة بثقة واسعة تتمتع بها الحكومة لدى الجمهور".