أراجع تاريخي الشخصي دائمًا لأكتشف ما الذي أنتمي إليه؟ أي وطن؟ أي أرض، أي ناس، وأي أفكار؟ وغالبًا ما أفشل في تحديد معنى حقيقي للانتماء. لكنني منتم. ليس ثمة من يمكن أن يكون غير منتم في هذا العالم. نحن كائنات لا نعرف أن نعيش كنمور. نعيش وسط حشد من الناس، بعضهم يمتهن مهنة صنع ابتساماتنا وقهقاتنا، وهي ضرورية لنا كضرورة الهواء. وبعضهم الآخر يمتهن مهنة صناعة أفكارنا. أيضًا، ثمة أفكار نحتاج إلى تداولها واختراعها لكي يصبح غدنا قابلًا لأن نحتمله. بعضهم يمتهن إطرابنا، وبعضهم نمتهن الخفة معهم ليتسنى لنا أن نحتمل هذه الكائنات ثقيلة الظل التي نحن عليها.
نحن لا ننتمي للمدينة، بل لأصدقائنا وأحبائنا فيها الذين نستطيع أن نتواصل معهم ضمن حيزها الجغرافي. ننتمي لذكرياتنا المشتركة فيها، لعلاقاتنا المعقدة في أرجائها
والأرجح أننا ننتمي للناس، للذين نحادثهم ويحادثوننا. لا يحدث أن ننتمي بالصمت لأحد. الناس ضروريون لبقائنا لمجرد أنهم يتكلمون: ينمّون على بعضهم بعضًا، ويغازلون بعضهم بعضًا، ويشتمون بعضهم بعضًا، ويضحكون من أنفسهم ومن غيرهم. حين تضيق المساحات بالناس والجماعات، يجهدون في صناعة الضحك على أنفسهم، وهذا الضحك هو دعوة تواصل يمنحها المضحوك عليه للضاحك. في نهاية الأمر، الانتماء في معظمه يتحدد باللغة. أنت تنتمي لما تعرفه: وما تعرفه هو اللغة أولًا، وبعدها يأتي الثاني والثالث والعاشر. تنتمي للغة، وتعرف من خلالها ما يعينك على معرفته فضولك وصبرك. وحين تعرف تنحاز. تصبح مواطنًا. لا تستقيم المواطنة من دون معرفة. المواطنة على عكس العلاقة المباشرة مع الطبيعة، تشترط معرفة. ومعرفة بالقوانين: هذا يجوز وهذا لا يجوز، معرفة بالحدود، هنا يسمح لك بالتجول والتسكع وهناك لا يسمح لك. وكل هذه المعارف مشروطة بإجادة اللغة التي تتواصل بها الحشود.
وحيث إن انتماءنا للحشد الذي يحيط بنا هو الأصل، وغالبًا ما يكون هذا الحشد مقيمًا في مكان يسهّل تواصل أفراده في ما بنهم، فإننا غالبًا نحسب الأرض التي نقيم عليها الأصل الذي نبني عليه انتماءنا. نحن لا ننتمي للمدينة، بل لأصدقائنا وأحبائنا فيها الذين نستطيع أن نتواصل معهم ضمن حيزها الجغرافي. ننتمي لذكرياتنا المشتركة فيها، لعلاقاتنا المعقدة في أرجائها. ولخيباتنا وأحلامنا ونجاحاتنا ضمن إطارها الجغرافي. المدن والأوطان ليست أمكنة، إنها ناس. وحين يهاجر الناس وتتفرق سبلهم كما هي حال معظم دول المشرق، تصبح الأوطان والمدن بلا جاذب يجذبنا إليها.
في الفترة الأخيرة درج مسؤولو السياحة في لبنان على دعوة المغتربين المتحدرين من أصل لبناني إلى زيارة بلادهم. ما أعلنه مسؤولو السياحة يكاد يكون فاقعًا في جشعه. "أهلا بهالطلة" هي العبارة التي انتشرت في لبنان هذا الصيف. ومؤداها العملي أن اللبنانيين المقيمين يحرضون أبناء البلد المغتربين لزيارة لبنان، والتمتع بالخدمة التي يقدمها لهم المقيمون لقاء ما سينفقونه في البلاد. هكذا لم تتردد وزارة السياحة ومعها مسؤولو القطاع السياحي لحظة واحدة في رد اللبنانيين المغتربين إلى مرتبة السائح الذي يريد أن يعيش سلطانًا ويعامل الآخرين كخدم، فقط لأنه يملك المال اللازم لجعل الأخرين خدمًا.
والحق، أن لبنان وبلادًا أخرى كثيرة في تلك المنطقة، لم يعد وطنًا على أي وجه من الوجوه. حتى للمقيمين فيه. ذلك أن المقيم فيه أصبح على نحو ما متسولًا وليس قرينًا، والمهاجر منه تحول إلى سلطان وليس مواطنًا. وبهذين التحولين أصبح البلد يشبه فندقًا على طريق مقفرة حقًا. وفي بلد كلبنان، تتعدد لغاته وتتكاثر على نحو لا راد له، لا يلبث هذا المسلك أن يؤدي إلى زواله من الذاكرة حتى قبل أن يزول من الخريطة.