في بلاد الأرز، يشكّل الأرز والصنوبر وكل أشكال الأغصان والعيدان اليابسة غذاءً دسمًا للمواقد، التي تلتهمه بكميات كبيرة لمواجهة البرد بالدفء واستقبال العواصف الآتية من خلف الجبال والبحار بـ "الحديد والنار". هذا في القرى، حيث تحتلّ المدافئ "صدر" البيت، وتتوزّع من حولها المجالس الواطئة على سجّاد وثير، يُتمّم "أبجدية الحرارة". فيما يرتفع على أعلى المربع الحديدي، الذي تطقطق في جوفه العيدان الملتهبة بعد أن أُضيف إليها الوقود من كاز أو مازوت، البخار الأبيض الكثيف من فوهات أباريق الشاي وفتحات ركوات القهوة.
وبعكس التدفئة المركزية، التي تلمّست طريقها إلى البيوت المشيّدة حديثًا في القرى، لتنشر الدفء في كل أركان المنزل، لا تزال التدفئة التقليدية "مركزية" الحرارة، بحيث تركّز الدفء في أجواء غرفة واحدة دون غيرها، فتجتمع العائلة من حول "الوجاق" أو "الصوبا"، بحسب التسمية المحلية للمدفأة، وتخبئ في فرنها الجانبي البطاطا الحلوة والكستناء ليكون الشواء "الشتوي" زاد السهرات الطويلة.
لا تزال الأغصان اليابسة وحطب الشجر مادة رئيسية للتدفئة في لبنان بسبب غلاء المحروقات والتقنين الكهربائي
إبّان العواصف "العاتية" والتي باتت الجهات المعنيّة بالأرصاد الجويّة في لبنان تطلق عليها أسماء أنثوية تلطيفًا ربما لحلولها الصاخب، تنتقل الفرش والوسائد إلى محيط الموقد لتبيت الأسرة كلها في غرفة واحدة نائيةً عن الأسرّة وتاركةً الغرف الأخرى للبرد القارس، الذي يحوّل أجزاء واسعة من البيت إلى مساحات من القطب الشمالي المقفرة.
في المدن يختلف الحال، فلا المدافئ بدواخينها التي تخترق السقوف لها حضورها في الشقق ولا حاجة لتعدّد البطانيات الصوفية السميكة فوق السرير الواحد. ورغم أن ما تقدم لا يعني أن المدن لا تعرف البرد، إلا أن سكانها يدرؤون الهواء البارد عن بيوتهم بإحكام إغلاق الواجهات الزجاجية، ويكتفون بأجهزة كهربائية أو أخرى تعمل على الغاز لضمان دفء متواصل يقي المنازل البرد.. و"نزلات البرد".
اقرأ/ي: موسم الصيد العشوائي في لبنان.. أين القانون؟
اختلاف "المناخات" الشتوية بين القرى والمدن ينعكس على التوزيع السكاني الذي يختلف تمامًا بين الفصول، فمدينة كـ"إهدن" تكاد تخلو من سكانها في الشتاء، حيث يهبط قاطنوها إلى مدينة زغرتا هربًا من الثلوج، التي تغطي الشوارع وتحول دون عمل وتنقل الإهدنيين.
هذا وتلعب "بورصة" أسعار النفط والانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي وفق نظام "التقنين" المستمر منذ عقود في لبنان، دورًا "جسيمًا" في حرمان اللبنانيين من الدفء، فتتحوّل "وجاقات" المازوت والحطب، ومدافئ الغاز والأجهزة الكهربائية إلى قطع خردة لا فائدة منها، فيستعيض عنها الأهالي بكوانين من الفحم الملتهب وأخرى من العيدان الرفيعة التي تشتعل مع قصاصات الورق، ويظل أضعف الإيمان ارتداء طبقات إضافيّة من الملابس السميكة.
يبقى أن الحال الأسوأ يعيشه سكان الخيمات، النازحون السوريون الذين أجبرتهم الحرب على ترك منازلهم. فهؤلاء يبيتون في عراء اصطُلح على تسميته "مخيّم" ينال حصّةً كاملةً من الثلوج والبَرَد. كيف يعيش هؤلاء في فصل الشتاء؟. لعل القدرة الإلهية وحدها هي ما تمكنّهم من الصمود. فعلى امتداد أعوام النزوح المفتوح على مزيد من المكوث في المجهول، يقضي العديد من الأطفال في كل عام بسبب البرد. صحيح أن الجهات المانحة الدولية، الأجهزة المحلية الحكومية وغير الحكومية تمدّ المخيمات بوسائل للتدفئة، إلا أن المدافئ أيًا كانت أشكالها تبقى عاجزة عن تثبيت أطراف الخيم عندما تهب "أعاصير" الشتاء.
اقرأ/ي أيضًا: