أظهرت دراسة علمية حديثة، مدى ضحالة فهمنا لمعتقدات الملحدين أو اللاإدريين، أو غيرهم ممن لا يندرجون تحت مسميات معينة. المزيد من التفاصيل في تقرير لصحيفة "ذا أتلانتيك" يُلقي الضوء على نتائج الدراسة، ننقله لكم مترجمًا فيما يلي:
"الأمريكيون شعب متدين بشدة، والملحدون ليسوا استثناءً. والأوروبيون علمانيون بشدة، والمسيحيون ليسوا استثناءً!". يُعد هذا التصريح المزدوج من قبيل التعميم، لكنه يضع أيدينا على خلاصة اكتشاف مذهل لدراسة حديثة عن الهوية المسيحية في أوروبا الغربية. فمن خلال دراسة استقصائية قوام عيناتها 25 ألف شخص من 15 دولة في المنطقة، ومقارنة نتائجها بالبيانات التي جُمعت في الولايات المتحدة في وقت سابق، اكتشف مركز بيو للأبحاث ثلاثة أمور مثيرة للاهتمام:
كشفت دراسة حديثة عن أن اللادينيين الأمريكيين، بنفس مقدار تدين، وربما أكثر، المسيحييين في بعض دول أوروبا الغربية!
أولًا: أكد الباحثون الحقيقة المعروفة سلفًا على نطاق واسع، أن الأمريكيين بشكل عام أكثر تدينًا من الأوروبيين الغربيين. وقاس الباحثيون الالتزام الديني باستخدام الأسئلة القياسية الأساسية، ومنها: "هل تؤمن بالله بيقين مُطلق؟" و"هل تُؤدي الصلوات بشكل يومي".
اقرأ/ي أيضًا: الموقف العلماني.. عن الإنسان والسلطة
ثانيًا: اكتشف الباحثون أن اللادينيين الأمريكيين -الذين يُعرفون بالملحدين أو اللاأدريين أو غيرهم ممن لا يندرجون تحت أي مسمى- أكثر تدينًا من أقرانهم الأوروبيين. قد يبدو مفهوم تدين الأشخاص اللادينيين متناقضًا بعض الشيء، لكنك إن شعرت بالنفور من الالتزام بدين منظم، لا يعني ذلك بالضرورة إنكارك للإيمان بالله، أو الكتاب، أو الصلاة.
ثالثًا: الكشف الثالث والأكثر إثارة، هو أن اللادينيين الأمريكيين بنفس مقدار تدين -أو حتى ربما أكثر تدينًا- المسيحيين في العديد من الدول الأوروبية، بما في ذلك فرنسا، وألمانيا، وبريطانيا.
وقالت نيها ساغال، الباحثة الرئيسية في هذه الدراسة: "لقد كان أمرًا مفاجئًا"، تقصد النتائج التي توصلوا إليها، مضيفة: "كانت تلك المقارنة رائعة بالنسبة إلي". وأشارت ساغال إلى أنه في حين يقول 23% من الأوروبيين إنهم يؤمنون بالله بيقين مُطلق، تزداد النسبة لـ27% لدى اللادينيين الأمريكيين!
وتُعد الولايات المتحدة بلد شديد الايمان بأن الدين يزدهر حتى في ظل العلمانية. بالنظر إلى زيادة عدد ما يعرف بـ"كنائس الملحدين" التي تلبي حاجات الأمريكيين الذين فقدوا إيمانهم بالآلهة الغيبية، لكنهم لايزالون على ولعهم بالمجتمع، ويستمتعون بالغناء مع الآخرين، ويريدون التفكير بعمق في الفضيلة والأخلاق. إنها ديانة مكتملة الأركان، عدا أنها خالية من وجود الإله المُجاوز.
وانتشرت تلك الظاهرة في جميع أرجاء الولايات المتحدة، بدايةً من كنيسة سياتل للملحدين، وصولًا إلى كنيسة "فري ثوت" شمال تكساس. إذ تملك "شبكة الواحة" التي تجمع اللادينيين للغناء والتعلم صباح كل يوم أحد، فروع في تسع مدن أمريكية.
وتدفق قرابة ألف شخص الشهر الماضي على كنيسة في سان فرانسيسكو لحضور حدث هو الأول من نوعه، تحت عنوان "قداس بيونسيه". كان الحضور في معظمهم من الأشخاص الملونين، وأفراد المجتمع المثلي. بينما كان معظمهم من العلمانيين.
ورددوا أغاني "كوين بي"، التي تزخر برمزية دينية، كأساس لاحتفال طائفي، والذي كان يتضمن كافة مظاهر القداسة الدينية. بدا الأمر مناسبًا تمامًا بالنسبة للبعض، بما في ذلك أحد الكهان الذي قال إن "بيونسيه أفضل تدينًا من كثير من القساوسة والكهنة في كنيستنا حاليًا".
وعلى صعيد آخر، كان حفل "ميت غالا" المنمق برموز كاثوليكية، والذي انعقد في شهر أيار/مايو المنضرم، مثالًا آخر على المظهر المتدين الممتزج بالثقافة العلمانية الأمريكية. فقد شهدت الليلة الأبرز في عالم الموضة خلال العام، مشاهير يطؤون بأقدامهم السجادة الحمراء مرتديات تاج باباوي، وهالات، وأجنحة ملائكية، وعدد لا حصر له من الصلبان.
وقد أثارت هذه الأزياء، بالإضافة إلى العرض المصاحب الذي يقدمه متحف المتروبوليتان للفنون، والذي يحمل عنوان "أجسام مقدسة: الموضة والخيال الكاثوليكي"، غضب بعض المسيحيين. وتجدر الإشارة هنا إلى أن كثير من المشاهير، بخلاف الأمريكيين العاديين، تقبلوا هذا العرض بحماسة. إذ من السهل تصور حدوث ذلك بشكل أسهل في الولايات المتحدة أكثر من فرنسا متجذرة العلمانية على سبيل المثال.
كانت الخمسينات أكثر الفترات تدينًا في أمريكا، فقد كان اصطباغ أمريكا بالمسيحية أحد أدوات الحرب الباردة في مواجهة "الشيوعية الملحدة"
وتوصلت دراسة مركز بيو إلى أنه على الرغم من الهوية المسيحية التي يتصف بها الأوروبيون الغربيون، فإن المسيحية بالنسبة لكثير منهم ما هي إلا هوية ثقافية أو عرقية، وليست هوية دينية. وتُطلق عليهم ساغال: "مسيحيون ما بعد المسيحية"، مع أن هذه التسمية قد تكون مضللة بعض الشيء، إذ إن الميل إلى قولبة المفاهيم المسيحية كدلالة عرقية، يرجع إلى عصر الحروب الصليبية على أقل تقدير، عندما كان يُنظر إلى غير المسيحيين في شمال أفريقيا والشرق الأوسط على أنهم "مغايرين" للأوروبيين المسيحيين البيض.
اقرأ/ي أيضًا: كم يبلغ وزن الروح؟
وتوصلت الدراسة أيضًا إلى أن 11% من الأوروبيين الغربيين يدّعون أنهم "روحانيين لكنهم غير دينيين". تقول ليندا وودهيد، أستاذة العلوم السياسية والفلسفة والدين بجامعة لانكستر في بريطانيا: "أفترض كون الشخص روحانيًا، أنه في مرحلة انتقالية بين المسيحية واللادينية"، مضيفةً: "تتيح الروحانية الفرصة للناس للاحتفاظ بما يحبونه في المسيحية، والتخلي عن الأجزاء التي لا يحبونها".
وأشارت وودهيد إلى نتيجة أخرى في دراسة مركز بيو، وهي أن معظم الأوروبيين الغربيين لايزالون يؤمنون بفكرة "الروح". وقالت: "لذا، لا يعني ذلك أننا بصدد علمنة صريحة، حيث يُنحى الدين جانبًا ليتصدر الإلحاد وإنكار كافة أوجه الالتزام الديني للمشهد، وإنما نحن بصدد أمر أكثر تعقيدًا مما قد نفهمه بشكل كامل. إذ يتعلق الأمر في أوروبا بأشخاص غير منتمين إلى مؤسسات الكنسية وكيانات السلطة القديمة. ويميلون إلى مجموعة متنوعة من المعتقدات الأكثر استقلالية فكريًا".
ولم تشهد الولايات المتحدة علمنة متجذرة مثل أوروبا، ولفهم أسباب ذلك، يجب الإلمام بالأسباب التاريخية الجوهرية. يقول جوزيف بلانكهولم، الأستاذ بجامعة كاليفورنيا سانتا باربرا، والذي يهتم بدراسة الإلحاد والعلمانية، إن الحرب الباردة على وجه التحديد كانت نقطة فارقة هامة.
وقال أيضًا: "كانت حقبة خمسينات القرن الماضي هي الأكثر تدينًا على الإطلاق في أمريكا"، مضيفًا: "أصبح شعار: بالله نؤمن، شعارًا وطنيًا رسميًا. وأضيفت عبارة، الله شاهدي، إلى قسم الولاء. فلطالما استمر تشكيل هذه الهوية على يد أشخاص بعينهم، مثل ترومان، وأيزنهاور، الذين كانوا يروجون للهوية المسيحية في الداخل والخارج في مواجهة الشيوعية الملحدة. فقد كان اصطباغ أمريكا بالمسيحية أحد أدوات الحرب الباردة".
مع مرور الوقت، خفت ذلك التفكير المزدوج بعض الشيء. ففي الوقت الراهن، ربع الأمريكيين تقريبًا ليس لهم انتماء ديني، كما أن العلمانية قد تمثل تشمل نطاقًا واسعًا في الولايات المتحدة. يُبين بلانكهولم ذلك قائلًا: "هناك طرق عدة لتكون علمانيًا أكثر توائمًا مع الأفكار الهجينة، كما أن هناك طرق لتكون علمانيًا خالصًا"، واستشهد على ذلك بالحركة اليهودية الإنسانية التي انتشرت في الولايات المتحدة خلال ستينيات القرن الماضي، والتي كانت تنكر الوحدانية، بينما كانت لاتزال تحتضن الثقافة والتاريخ اليهودي، كمثال على الفئة الأولى. وقال "يمكن لمصطلح كالروحانية أن يتسع لمثل هذا الهجين".
تُظهر دراسة مركز بيو أن 27% من الأمريكيين يقولون إنهم روحانيون لكن غير متدينين. فعلى الرغم من أنهم هجروا الدين المنظم، إلا أن كثير منهم لايزالون يؤدون الصلاة بانتظام، ويؤمنون بالله. وهو ما يمثل مشكلةً بالنسبة للباحثين، إذ لم يعد من الممكن الاعتماد على مقاييسهم التقليدية لقياس التدين، وتحديد الأشخاص المتدينين بدقة. قال بلانكهولم: "أعتقد أن الناس يفعلون أشياء لا تعكس المسيحية بالشكل الكافي الذي يمكننا من خلاله مواصلة تصنيف الفئات كما كان يحدث سابقًا"، مضيفًا: "تلك التصنيفات قد بلغت منهاها- بل قد عفى عليها الزمان من أوجه أخرى".
27% من الأمريكيين يقولون إنهم روحانيون لكن غير متدينين، فهم هجروا المؤسسة الدينية، لكن لا يزالون يؤدون الصلوات ويؤمنون بالله
وقالت ساغال إنها كانت على دراية بهذه المشكلة، وبذلت جهدها لتصمم أسئلة الدراسة بشكل أكثر تفصيلًا، حتى يتسنى لهم التوصل إلى حقائق أكثر دقة من تلك التي كانوا يحصلون عليها من الأسئلة التقليدية وحدها. فعلى سبيل المثال، لم تقتصر الدراسة على سؤال الأشخاص المشاركون في الدراسة عما إذا كانوا يؤمنون بالله. بل تعمقت الأسئلة أكثر، لتسأل عما إذا كانوا يؤمنون بالله كما هو مذكور في الكتاب المقدس، أم إذا كانوا يؤمنون ببعض القوى العليا الأخرى.
اقرأ/ي أيضًا:
مشروع قانون بالبرلمان المصري لتجريم الإلحاد.. تقنين سلطة الحساب على النوايا!