تبرز بين الفينة والأخرى، خصوصًا بعد توقيع عدد من الدول العربية معاهدات سلام مع إسرائيل، إشكالية الترجمة من وإلى اللغة العبرية. هذه الإشكالية التي تمسّ المشهد الثقافي العربي وتخلق سجالات صاخبة بين مثقفيه حول جدوى هذه الترجمة والغرض منها وغير ذلك.
لا بد من وضع الأمور في سياقها كونها تبدو للبعض مسألة عابرة، مع أن ما يحدث يحمل دلالات في غاية الأهمية عن التصور المراد له من الترجمة من جهة، ومن طبيعة العلاقات التي ترسمها من جهة أخرى. فالواضح بلا ريب أن هناك توجهًا يستند إلى خطط مدروسة يدفع إلى اختراق المشهد الثقافي العربي، من أجل أن تصبح فيه سردية الاحتلال جزءًا من تاريخ هذه المنطقة، المراد إعادة صياغته.
ثمة توجه صهيوني يستند إلى خطط مدروسة من أجل اختراق المشهد الثقافي العربي، لكي تصبح سردية الاحتلال الإسرائيلي جزءًا من تاريخ المنطقة
الملفت في الأمر أن الساحة الثقافية في الآونة الأخيرة شهدت تسويقًا للعديد من الطروحات التي تدعو إلى الانفتاح على الآخر، تحت عناوين عدة: الأدب منفصل عن السياسة، لا وصاية على الأدب والفن وغيرها.. وهنا علينا أن نتوقف مليًا أمام هذا، فمن حقنا أن نطرح التساؤلات لكي تتوضح الرؤية ونتجاوز المنطقة الرمادية، وهذا أمر مهم ومشروع لمعرفة حدود هذا المسار، من خلال أسئلة: إلى أين يأخذنا؟ وما الجدوى من الترجمة؟ من الجهات والمؤسسات التي تقف وراء تلك المشاريع في الخارج، ومن الجهات الداعمة له في الداخل؟ من يحدّد المواد المختارة للترجمة؟ وكيف تتم الترجمة؟
اقرأ/ي أيضًا: نحو تصور ديمقراطي في رفض التطبيع
الإجابة عن كل تلك التساؤلات تحدّد الهدف الذي يجعلنا نُدرِج الترجمة ضمن إطار الفعل المقاوم لمعرفة الآخر وفهمه، أو نراها وسيلة تواصل مع الآخر تحت عناوين مختلفة.
في ستينيات القرن الماضي، عمدت إسرائيل إلى تأسيس معهد للترجمة خاص بالأدب العبري، في إطار مشروع يستند للترويج للأعمال الأدبية التي تتبنى السردية الصهيونية في مختلف لغات العالم، ومنها العربية، حيث يتم الترويج لها على نطاق واسع بهدف خلق أرضية لبناء شبكة علاقات، تطورت وتوسعت فيما بعد لتصل إلى مستوى محاولة الاختراق الثقافي في خضّم الصراع القائم، عن طريق ترجمة الأدب العربي إلى العبرية.
يتحدث الشهيد غسان كنفاني في مقدمة كتابه في الأدب الصهيوني: "قاتلت الحركة الصهيونية بسلاح الأدب قتالًا لا يوازيه إلا قتالها بالسلاح السياسي". هذا الحديث يثبت أن ثمة مشروعًا ما يؤسس لتطبيع ثقافي كامل، تقوم الجهات الإسرائيلية بتجنيد كل الإمكانيات والطاقات للترويج له وفق منظورها وما يخدم رؤيتها، من أجل خلق آلية لمد جسور التواصل مع العالم العربي.
ساعدت التطورات السياسية الحاصلة في المنطقة، أي اتفاقيات التطبيع، على تزايد الدعوات المريبة إلى الترجمة للعبرية التي تلقفها العديد من المثقفين العرب ودفعوا الى العمل على ترجمة نصوصهم، وهنا نعود إلى مربع الأسئلة الأول عن الغرض من الترجمة، هل ترجمة نص أدبي للعبرية اختراق أم تواصل؟ الأمور يجب أن توضع في حيّز المكاشفة لنضع النقاط على الحروف.
غسان كنفاني: "قاتلت الحركة الصهيونية بسلاح الأدب قتالًا لا يوازيه إلا قتالها بالسلاح السياسي"
يذهب بعض الكتّاب الى القول إنهم لا يتدخلون في ترجمة كتبهم إلى العبرية، ولا يتواصلون مع دور النشر الإسرائيلية، وهنا للأسف نجد بعض المواربة لأن المطلع البسيط على سوق النشر يعرف أن الترجمة تحتاج لإذن المؤلف لكي يبرم عقدًا تترتب عليه تكاليف مالية ومعنوية، تلك الإجراءات كلها لا تأتي اعتباطيًا فهي محكومة بسلسلة خطوات، أعتقد من السذاجة الاعتقاد أنها تتم دون علم الكاتب.
اقرأ/ي أيضًا: تونس.. جدل تجريم التطبيع يتجدد
وضع الأمور في سياقها يجعل الصورة أكثر وضوحًا: ثمة طرفان يساهمان في معادلة الدفع بعملية تعويم هذا الانفتاح على الآخر بحجة الإبداع، ضمن حسابات مشبوهة سياسيًا، لذا حري بنا أن نسأل هؤلاء المثقفين من هم جمهورهم المستهدف في العبرية؟ على أي فئة هم منفتحون؟
بالنظر إلى المجتمع الإسرائيلي، إن استثنينا قلة محسوبة على اليسار رافضة للعنصرية الممارسة على الفلسطينيين والتي تعترف بحق بتقرير مصيرهم، فإن الغالبية العظمى تنحو منحى اليمين وتتعامل بازدراء واحتقار مع الآخر، في منهجية فكرية مؤسّسة على مفهوم ثقافي يهودي تلمودي، بات إرثًا ثقافيًا حتى لغير المتدينين، يعتبر "الأغيار"، أو غير اليهود، بهائم خلقها الله على هيئة بشر لخدمة اليهود. هذا ما تعبّر عنه القوى الفاعلة في المجتمع الإسرائيلي التي لا تعترف أصلًا بحق الفلسطينيين بالتواجد على أرضهم التاريخية، ولا تعترف بحقوقهم وتتعامل معهم كأجانب، حتى أن مفهوم "الدولة اليهودية" بات مفهومًا مسيطرًا في الخطاب السياسي الإسرائيلي.
هنا جذر الخلاف مع هؤلاء المثقفين والكتّاب، هنا مكمن الكارثة، لا سيما عندما يتجاوزون كل تلك الحقائق ويقفزون عليها، فينسجون هالة من التقوقع حول الذات لتحقيق مكاسب وطموحات شخصية، يتوهمون من خلالها أن الهرولة نحو العدو وفتح قنوات اتصال معه عن طريق الترجمة للعبرية هي خلاصهم، وأن باب الشهرة والعالمية قد فُتح أمامهم، ومن أجل ذلك لا يتوانون عن الذهاب حد المواجهة ضد من يقف أمام خياراتهم، فيروجون لفكرة أن مناهضي التطبيع الثقافي أشخاص عديمو ثقافة وضيقو الأفق ومحدودو التفكير ومتطرفون وأعداء للحرية وإرهابيون.
وحدهم المطبّعون من يرون مناهضي التطبيع الثقافي أشخاصًا عديمي الثقافة وضيقي الأفق ومحدودي التفكير، ومتطرفون وأعداء للحرية وإرهابيون!
على المقلب الآخر، أثبتت التجارب السابقة أن الانحدار السياسي الذي سلكته الأنظمة العربية باتجاه التطبيع قابلته مواقف ثابتة من عديد المثقفين، فالمثقف الحقيقي صاحب موقف ومبدأ إنساني ينحاز إلى القضايا العادلة، ولا يُغلّب مصالحه الشخصية. لهذا كل محاولات الاختراق التي أعقبت اتفاقيات كامب ديفيد باءت بالفشل، فقد حافظ المثقفون المصريون على مساحة كانت كافية لحماية الثقافة المصرية من تلك الاختراقات والانحرافات، إذ شكّلت الحالة المصرية الرافضة للتطبيع والملتفة حول مشروعية الحق الفلسطيني عائقًا كبيرًا جعل التطبيع محصورًا في الدوائر الرسمية، التي لم تتجاوز المجال السياسي والعسكري والأمني، وتكرر الأمر نفسه في الأردن.
اقرأ/ي أيضًا: في زمن ما بعد التطبيع
من المؤسف أننا أصبحنا أمام حالتين متناقضين بسبب عقم المثقف العربي المهزوز، وهشاشة مواقفه أرضية سهلة للاختراق، في ظل واقع أصبح فيه المشهد الثقافي تتحكم في مساره وتضبطه جهات مرتبطة بأنظمة ريعية طبّعت علاقاتها مع إسرائيل، وهنا أضحت مسألة الترجمة خيارًا سياسيًا يخدم تصوّر العدو. لذا أصبح من الواجب علينا أن نعود للمسلمات من جديد، ونحدد الأسس والقيم الأخلاقية التي يجب أن ننطلق منها لتقييم مواقفنا، أيًا كانت الظروف والضغوطات، المسوغات والحجج، المغريات والمحفزات، التي تحاول أن تقفز على حقائق أثبتت العديد من المحطات أن إسرائيل دولة احتلال عنصري تتنكر لحق الشعب الفلسطيني بالعودة وتقرير مصيره.
اقرأ/ي أيضًا: