في هذا التقرير المترجم بتصرف عن صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، يستقصي كاتبه باتريك كينغسلي نشوء نوع من العلاقات التبادلية بين السودان ودول أوروبية، تُخفف بموجبها العقوبات عن السودان، مقابل دور تلعبه الخرطوم في وقف هجرة اللاجئين إلى أوروبا، بأساليب قمعية في كثير من الأحيان.
على الحدود الشرقية للسودان، قاد الملازم سميح عمر سيارتيّ دورية ببطء عبر الصحراء الوعرة، قبل أن يتوقف على الطريق الذي يبلغ طوله 2000 ميل، والذي يسلكه الآلاف من شرق أفريقيا سنويًا في محاولة للوصول إلى البحر المتوسط، ثم إلى أوروبا. وتساعد دورياته على طول هذه الحدود مع إريتريا في اتخاذ إجراءات صارمة ضد أحد أكثر الممرات ازدحامًا في مسار الهجرة إلى أوروبا. لكن الملازم عمر ليس مجرد موظف حدود. فهو يعمل لصالح الشرطة السرية السودانية المخيفة، المتهم قادتها بارتكاب جرائم حرب، والتي اتهم ضباطها مؤخرًا بتعذيب المهاجرين.
يريد الأوروبيون حدودًا مغلقة أمام اللاجئين ويريد السودانيون إنهاء سنوات من العزلة عن الغرب
وهو يعمل أيضًا من أجل تنفيذ خطط وسياسات الاتحاد الأوروبي، بشكل غير مباشر. يقول الملازم عمر: "في بعض الأحيان، أشعر أن هذه هي الحدود الجنوبية لأوروبا". قبل ثلاث سنوات، عندما تدفق سيل من المهاجرين إلى أوروبا بأعداد غير مسبوقة، استقبلهم العديد من القادة هناك بأذرع مفتوحة ومثالية عالية. ولكن بعد أن أدت أزمة الهجرة إلى تغذية الشعبوية الغاضبة والاضطرابات السياسية في جميع أنحاء القارة، بدأ الاتحاد الأوروبي يلطخ أياديه سرًا للتخفيف من تدفق البشر، جزئيًا من خلال الاستعانة بمصادر خارجية لإدارة الحدود في البلدان ذات السجلات المشبوهة في مجال حقوق الإنسان. من الناحية العملية، نجح هذا النهج في خفض عدد المهاجرين الوافدين إلى أوروبا إلى أقل من النصف منذ عام 2016. لكن العديد من دعاة الهجرة يقولون إن التكلفة المعنوية عالية.
يدفع الاتحاد الأوروبي المليارات لحكومة تركيا من أجل إغلاق الطريق البحري إلى اليونان. وفي ليبيا، تتهم إيطاليا برشوة بعض أفراد الميليشيات الذين استفادوا منذ زمن طويل من تجارة التهريب الأوروبية، وكثير منهم متهمون أيضًا بارتكاب جرائم حرب. أمّا في السودان، الذي يعبره مهاجرون يحاولون الوصول إلى ليبيا، فإن العلاقة أكثر غموضًا ولكنها متجذرة في الحاجة المتبادلة: يريد الأوروبيون حدودًا مغلقة ويريد السودانيون إنهاء سنوات من العزلة عن الغرب. تواصل أوروبا فرض حظر على الأسلحة ضد السودان، والعديد من القادة السودانيين منبوذون دوليًا، ومتهمون بارتكاب جرائم حرب خلال الحرب الأهلية في دارفور، وهي منطقة في غرب السودان.
اقرأ/ي أيضًا: ما هي الصفقة وراء رفع العقوبات الأمريكية عن السودان؟
لكن العلاقة تتعمق بشكل لا لبس فيه. أصبح الحوار الأخير، الذي أطلق عليه اسم "عملية الخرطوم" منبرًا لعقد ما لا يقل عن 20 مؤتمرًا دوليًا حول الهجرة بين مسؤولي الاتحاد الأوروبي ونظرائهم من عدة دول أفريقية، بما في ذلك السودان. كما وافق الاتحاد الأوروبي على أن تعامل الخرطوم كمركز من أجل التعاون في مكافحة التهريب. في حين لم يتم منح أي أموال أوروبية مباشرة إلى أي هيئة حكومية سودانية، فقد قامت الكتلة بتوجيه حوالي 131 مليون دولار، إلى البلاد من خلال جمعيات خيرية ووكالات معونة، خاصة من أجل برامج الغذاء والصحة والمرافق الصحية للمهاجرين، وكذلك لتنظيم برامج تدريبية للمسؤولين المحليين.
وقالت كاثرين راي، المتحدثة باسم الاتحاد الأوروبي: "في الوقت الذي ننخرط فيه في بعض المناطق من أجل الشعب السوداني، ما زال لدينا نظام عقوبات قائم" ، في إشارة إلى فرض حظر على الأسلحة والمواد ذات الصلة. وأضافت، "نحن لا نشجع السودان على الحد من الهجرة، ولكن على إدارة الهجرة بطريقة آمنة وكريمة".
ويقول أحمد سالم، مدير إحدى المنظمات غير الحكومية التي تتلقى تمويلاً أوروبيًا، إن دوافع الاتحاد الأوروبي تجمع بين المصلحة الذاتية والرغبة في تحسين الوضع في السودان. ويؤكد سالم، الذي يرأس المركز الأوروبي والأفريقي للبحوث والتدريب والتطوير، أنهم "لا يريدون أن يعبر المهاجرون البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا". لكنه يرى أن الأموال التي تحصل عليها مؤسسته تعني تقديم خدمات أفضل لطالبي اللجوء في السودان. ويضيف أن "عليك أن تعترف بأن الدول الأوروبية تريد أن تفعل شيئًا لحماية المهاجرين هنا".
ويجادل المنتقدون بأن تلك العلاقة الناشئة تعني أن القادة الأوروبيين يعتمدون بشكل ضمني على جهاز الأمن السوداني الذي اتُّهم قادته من قبل الأمم المتحدة بارتكاب جرائم حرب في دارفور. يقول سليمان بالدو، مؤلف ورقة بحثية حول شراكة أوروبا مع السودان بشأن الهجرة، إنه "لا يوجد تبادل مباشر للأموال. لكن الاتحاد الأوروبي بذلك يمنح شرعية لاستخدام العنف مع المهاجرين".
على الحدود بالقرب من أبو جمال، ينتمي الملازم عمر وعدة من أفراد دوريته إلى جناح قوات الأمن السودانية الذي يرأسه صلاح عبد الله غوش، أحد المسؤولين السودانيين المتهمين بتدبير الهجمات على المدنيين في دارفور. في مكان آخر، تحمي الحدود قوات الدعم السريع، وهي فرع من الجيش السوداني تتشكل من ميليشيات الجنجويد الذين قادوا الهجمات على المدنيين في أثناء الصراع في دارفور. وقال الملازم عمر إن تركيز قوات الدعم السريع لا ينصب على مكافحة التهريب، لكن ما يقرب من ربع مهربي البشر الذين تم القبض عليهم في يناير/ كانون الثاني وفبراير/ شباط من هذا العام على الحدود الإريترية اعتقلتهم قوات الدعم السريع.
اقرأ/ي أيضًا: لماذا لا يسقط النظام في السودان؟ (3-3)
لدى المسؤولين الأوروبيين اتصال مباشر فقط مع شرطة الهجرة السودانية، وليس مع قوات الدعم السريع، أو قوات الأمن التي يعمل بها الملازم عمر، لكن عملياتهم ليست بعيدة عن ذلك. سيعتمد مركز تنسيق مكافحة الاتجار بالبشر المزمع إنشاؤه في الخرطوم، والذي سيشارك في إدارته ضباط شرطة من السودان وعدة بلدان أوروبية، بما في ذلك بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، جزئيًا على معلومات مصدرها جهاز الأمن والمخابرات الوطني، وفقًا لرئيس قسم شرطة الهجرة، اللواء عوض النيل ضحية. كما تتلقى الشرطة النظامية دعمًا من حين لآخر من قوات الدعم السريع بشأن عمليات مكافحة الاتجار بالبشر في المناطق الحدودية، وفقًا لما صرح به اللواء ضحية، الذي يقول إنهم متواجدون هناك ويمكنهم المساعدة. "الشرطة ليست منتشرة في كل مكان، ولا يمكننا تغطية كل الأماكن".
القادة الأوروبيين يعتمدون بشكل ضمني على جهاز الأمن السوداني الذي اتُّهم قادته من قبل الأمم المتحدة بارتكاب جرائم حرب في دارفور
لكن الشرطة السودانية تعمل في مكان واحد غير متوقع: أوروبا. في محاولة لردع المهاجرين في المستقبل، سمحت ثلاث دول أوروبية على الأقل، هي بلجيكا وفرنسا وإيطاليا، لضباط الشرطة السودانيين بالتعجيل بترحيل طالبي اللجوء السودانيين، حسبما قال اللواء ضحية. دورهم الرسمي هو ببساطة تحديد مواطنيهم. لكن سُمح للضباط باستجواب بعض المرشحين للترحيل دون مراقبة من قبل المسؤولين الأوروبيين الذين يمتلكون المهارات اللغوية لفهم ما يقال.
تم ترحيل أكثر من 50 طالب لجوء سوداني من أوروبا خلال الـ 18 شهرًا الماضية، من بلجيكا وفرنسا وإيطاليا. وقد أجرت صحيفة نيويورك تايمز مقابلات مع سبعة منهم في زيارة قامت بها مؤخرًا للسودان. قال أربعة إنهم تعرضوا للتعذيب لدى عودتهم إلى السودان، وهي مزاعم نفاها اللواء ضحية. كان أحدهم منشق سياسي من دارفور تم ترحيله في أواخر 2017 من فرنسا إلى الخرطوم، حيث قال إن عملاء جهاز الأمن والمخابرات الوطني احتجزوه لدى وصوله. وخلال الأيام العشرة التالية، قال إنه تعرض لصدمات كهربائية، ولُكِم وضُرِب بأنابيب معدنية. وفي إحدى المراحل، فقد الرجل، الذي طلب حجب اسمه حفاظًا على سلامته، وعيه، وكان يتعين نقله إلى المستشفى. وتم الإفراج عنه فيما بعد بإفراج مشروط. يقول المنشق إنه قبل ترحيله من فرنسا هدده ضباط الشرطة السودانية في وجود ضباط فرنسيين في مكان قريب. يقول، "لقد قلت للشرطة الفرنسية: إنهم سيقتلوننا. لكنهم لم يفهموا".
يزعم المسؤولون الأوروبيون أن اتخاذ الخرطوم كقاعدة للتعاون في مكافحة تهريب البشر لا يمكن أن يؤدي إلا إلى تطوير قوات الأمن السودانية. سيتيح مركز العمليات الإقليمي في الخرطوم، المقرر افتتاحه هذا العام، للمندوبين من عدة بلدان أوروبية وأفريقية تبادل المعلومات الاستخباراتية وتنسيق العمليات ضد المهربين في جميع أنحاء شمال أفريقيا.
لكن المخاطر المحتملة واضحة من خلال التعاون السابق. في عام 2016، أعلنت الشرطة البريطانية والإيطالية، اللتان أشادتا بعملية مشتركة مع نظرائهما السودانيين، باعتقال "أحد أخطر مهربي البشر على مستوى العالم". وقالوا إنه كان إريتريًا يدعى ميدهاني يهدغو ميريد، وقد أُلقِي القبض عليه في السودان وسُلِّم إلى إيطاليا.
تم ترحيل أكثر من 50 طالب لجوء سوداني من أوروبا خلال الـ 18 شهرًا الماضية، من بلجيكا وفرنسا وإيطاليا
يعترف الدبلوماسيون الغربيون الآن، ولكن ليس علنًا، بأن الشخص الذي تم توقيفه لم يكن هو المهرب المطلوب. تبين أن السجين هو مدهاني تسفاماريام برهي، وهو لاجئ إريتري يحمل نفس الاسم الأول للمهرب الحقيقي. أما ميريد فلا يزال طليقًا.
حتى اللواء ضحية يعترف الآن بأن السودان سلم الرجل الخطأ، وإن كان شخصًا، كما يقول، اعترف أثناء وجوده في الحجز في السودان بالتورط في التهريب. "كان هناك شخصان، في الواقع، شخصان يحملان الاسم نفسه" ، قال اللواء ضحية. ومع ذلك، لا يزال يخضع برهي للمحاكمة في إيطاليا، متهمًا بأنه ميريد، وبأنه مهرب.
بل أكثر من ذلك، طالما اتهمت أجهزة الأمن السودانية منذ فترة طويلة بالاستفادة من التهريب. بعد الضغط الأوروبي، تبنى البرلمان السوداني مجموعة كبيرة من التشريعات الخاصة بمكافحة التهريب في عام 2014، وقد أدت القواعد منذ ذلك الحين إلى مقاضاة بعض المسؤولين بشأن تورطهم المزعوم في أعمال التهريب.
لكن وفقًا لأربعة مهربين قابلتهم سرًا خلال رحلتي إلى السودان، فإن أجهزة الأمن لا تزال متورطة عن كثب في تلك التجارة، إذ يتلقى المسؤولون في جهاز الأمن والمخابرات الدولي جزءًا من أرباح التهريب في معظم الرحلات إلى جنوب ليبيا.
ادعى رئيس قوات الدعم السريع، العميد محمد حمدان دغلو في الماضي أن قواته تلعب دورًا رئيسيًا في إغلاق الطريق إلى ليبيا. لكن كل مهرب، تمت مقابلته بشكل منفصل، قال إن منظمة قوات الدعم السريع غالبًا ما تكون الجهة المنظمة الرئيسة لتلك الرحلات، وغالبًا ما تقدم عربات مموهة لنقل المهاجرين عبر الصحراء.
بعد تسليم المهاجرين إلى الميليشيات الليبية في الكفرة وسبها، في جنوب ليبيا، يتم بعد ذلك تعذيب العديد منهم بشكل منهجي، واحتجازهم مقابل فدية، ثم يتم تقاسم تلك الأموال فيما بعد مع قوات الدعم السريع، كما يقول كل مهرب. وكان نشطاء حقوق الإنسان قد اتهموا مسؤولين سودانيين بالتواطؤ في الاتجار بالبشر. في تقرير عام 2014 ، قالت هيومن رايتس ووتش إن كبار مسؤولي الشرطة السودانية تواطؤوا في تهريب الإريتريين.
يتلقى المسؤولون في جهاز الأمن والمخابرات الدولي جزءًا من أرباح التهريب في معظم الرحلات إلى جنوب ليبيا
قال صحفي بريطاني احتجزته قوات الدعم السريع في دارفور عام 2016 إنه أخبر من قبل خاطفيه أنهم كانوا متورطين في تهريب أشخاص إلى ليبيا. ويقول فيل كوكس، وهو مخرج مستقل للقناة الرابعة، "سألت تحديدًا عن كيفية عملهم. قالوا إننا نتأكد من أن الطرق مفتوحة، ونتواصل مع من يسيطر على المنطقة التالية."
اقرأ/ي أيضًا: