يحكم التّغييرات في العالم، اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا، مزاج الرّأي العام المحيط، الذي يرسم خطوطًا عريضةً كعناوين عامة، تتفرع منها الحقوق والواجبات، وتقسّم على أساسها مسؤوليات الفرد تجاه المجتمع والعكس، وللرأي العام الحق في تقويض السّلطات وتبديلها تبعًا لما يرى فيه من مصلحةٍ تخدم سيرورة مجتمعه.
يمكن الاتكال على الرأي العام في حال كان واعيًا، إلا أن مسألة الوعي المجتمعي نسبية، فالمجتمعات لن تسلّم بقلّة وعيها، لذلك ينجح صنّاع الرّأي العام منذ ما قبل الميلاد، في بسط سيطرتهم على المزاج الشّعبي والتّحكم به.
نجحت الأنظمة في سوريا ومن مثلها، في إيهام الرّأي العام أن الحرب عليه ليست حربًا على الدّيمقراطية والحرّيات، بل حربٌ هو شريكٌ فيها على الإرهاب
في عصر الرّومان، عمد القياصرة والجنرالات إلى ابتداع مسابقة، أسموها برياضة قتال الحلبات، يشاهد الجمهور طرفين متقاتلين، يستعملان من الأسلحة ما لا يخطر ببال، الطّرف الأول يمثّل سجينًا حكم بالإعدام، والطرف الثاني مقاتلًا مملوكًا من رجلٍ نافذ، والرجل النافذ كان يشتري مقاتليه من سفن الرّحالة، وكانوا بالأغلب من المختطفين أو أسرى الحروب.
عمد الرّومان من خلال هذه الرّياضة إلى تكريس عدّة مفاهيم وتطعيم الرّأي العام بها. المجرم مصيره الموت أمام الجميع، وبأبشع الطّرق، وإن نجا، فسيحيا عبدًا لأن الخطأ ممنوع، أما الفقير أو المديون أو من عجز عن سداد رهانه، فهو عبدٌ أيضًا حتى سداد ما عليه، وبالتّالي، تكريسٌ لمفهوم الطّبقية المجتمعية، وجعلها الفيصل ما بين الرّومان، هذا داخليًا.
اقرأ/ي أيضا: مديح لنساء العائلة.. العشيرة تدخل الحداثة
أما خارجيًا، فتعمّد الرّومان من لعبة صراع الحلبة إرسال رسالة للمحيط، بأنه لا فاصل بين السّلم والحرب، وأن الموت أسهل على الرومان من أي شيء آخر، حتّى أنهم جعلوا منه لعبةً بها يتسلّون.
اعتمدت الأنظمة البائدة، أي أنظمة الحزب الواحد السّياسة ذاتها، فالنّازية والفاشية سجنوا معارضيهم، وورّدوا النّموذج ليحتذيه البعث في سوريا والعراق، ناهيك عن النّموذج الآخر، نموذج تأليه الزّعيم أو الملك، والذي اقتُبس عن الشّاه الإيراني، وملوك مصر المتعاقبين، وفيه تدرّب الرّأي العام على الطّاعة العمياء، وتطويع نفسه ومقدّراته الفكرية والعملاتية خدمةً للملك/الحاكم المقدّس.
وبالتّالي، عملت الأجهزة المخابراتية والإعلامية على حدٍّ سواء على تثبيت ورعاية هذه الفكرة، أي الرأي العام التّابع، وبذلك ضمن الحكّام ملكهم قبل أن تنقلب الطّاولة عليهم، ويسطّر البوعزيزي صفحةً جدلية في كتب التّاريخ، عنوانها "الرّبيع العربي".
حمل الرّبيع العربي أهدافًا نبيلة، وآمالًا صقلتها الحناجر والقبضات الشّبابية، لكن سرعان ما نجحت الثّوارت المضادة في مصر وغيرها بقلب الرّأي العام
لا شكّ أن الرّبيع العربي حمل أهدافًا نبيلة، وآمالًا صقلتها الحناجر والقبضات الشّبابية، لكن سرعان ما نجحت الثّوارت المضادة في مصر وغيرها بقلب الرّأي العام، وسجن المؤثّرين وشراء الإعلام والمنابر، فأعادت بناء عقائد باليةٍ في أذهان الشّعب، مظهرةً الحاكم كمخلصٍ أتى ليرفع عن الشّعب غمّته.
بينما نجحت الأنظمة في سوريا ومن مثلها، في إيهام الرّأي العام أن الحرب عليه ليست حربًا على الدّيمقراطية والحرّيات، بل هي حرب هو شريكٌ فيها على الإرهاب، وبذلك، ضمن الحاكم لنفسه مدّة حكمٍ أطول، بضماناتٍ دوليةٍ وخوفٍ شعبي.
عند الحديث عن الرأي العام، يحضر الوعي كمادة تكوينٍ بنيوية، ما تعاني منها مجتمعات الدّول النّامية، دول العالم الثّالث، هو الجفاف التّوعوي، فلا أحد يصقل وعي النّاس، بل يتعمّد صنّاع القرار بالشّراكة مع بعض المؤسسات الدّينية تجهيل العامّة، وذلك لتسهيل السّيطرة والتّحكم بهم على الدّوام.
اقرأ/ي أيضا:
السنوات الأخيرة لدولة المماليك "العسكرية"
صورة الحاكم