كانت الجزائر أو "المغرب الأوسط" بلغة الجغرافيا السّياسية القديمة، ضمن المناطق الأولى التي احتضنت نشوء الدولة الفاطمية ذات النزعة الشيعية، في القرن العاشر للميلاد. فكان ذلك مقدّمة لإرساء تقليد الاحتفال بالمولد النبوي في الفضاء الجزائري.
في الجزائر، تتجلّى مظاهر الفرح في المولد النبوي لدى الأطفال خاصة، الذين هيمنت المفرقعات والألعاب النارية المستوردة على احتفالاتهم خلال السنوات الماضية
بقي هذا التّقليد ساري المفعول، بعد انتقال مقرّ الخلافة الفاطمية إلى مصر، ثم القضاء عليها على يد الأيّوبيين وعودة الجزائر إلى الحاضنة السّنية، وذلك "بسبب النّزعة الصّوفية، التي طغت على الإسلام الجزائري، ذلك أن المتصوّفة يرون في الصلاة على النبي والاحتفاء بكلّ ما يمتّ إليه بصلة، منها مولده، نوعًا من الطّاعات والقربات"، بحسب الباحث في التصوّف والتّراث الإسلامي سعيد جاب الخير.
انضمّ يوم المولد النبوي، الموافق للثاني عشر من شهر ربيع الثّاني الهجري، إلى قائمة الإجازات مدفوعة الأجر في الجزائر. فهي مناسبة بالغة الحضور في وجدان الجزائريين، الذين يستعدّون لها أسبوعًا قبل حلولها، ولهم في الاحتفال بها عادات وطقوس باتت تشكّل واحدًا من ملامح هوّيتهم الدّينية، منها الاجتماع في المساجد والسّاحات العامّة لترديد قصيدة "البردة"، التي كتبها محمّد بن سعيد البويصري في القرن الحادي عشر للميلاد.
اقرأ/ي أيضًا: "عصيدة الزقوقو".. موجة مقاطعة لأشهر تقليد تونسي في المولد النبوي
تتجلّى مظاهر الفرح بهذه المناسبة لدى الأطفال أكثر من الشّرائح الأخرى. حيث يعمل الأكبر سنًّا على أن يلقّنوا الأصغر منهم أناشيد وأغاني المولد، أشهرها تلك التي يقول مطلعها: "هاو جا مولودينا يفرح بينا/ في مكة والمدينة/ يا حجّاج بيت الله/ يلا شفتوا رسول الله/ شفناه وريناه/ في مكة خلّيناه".
ولعبت المفرقعات والألعاب النّارية الحديثة، التي غزت الفضاء الجزائري في الأعوام الخمسة عشر الأخيرة، في ظلّ البحبوحة المالية، التي أفرزها ارتفاع أسعار النّفط في الأسواق العالمية، وكانت واحدًا من مظاهر العنف كما أشار "الترا صوت" إلى ذلك في مقال سابق، دورًا حاسمًا في القضاء على الألعاب التقليدية، التي كان الطفل الجزائري يقبل عليها بمناسبة المولد النبوي، والتي منها تحويل علب الطماطم المصبّرة إلى قناديل، بوضع شموع أو إشعال نار داخلها، بعد نزع غطائها وإفراغها من محتواها.
تسمّى العلبة/القنديل، التي يحملها الطّفل من مقبض يصنع من سلك حديدي "الغلّاية"، لأنها شبيهة بإناء غلي القهوة، و"الموطار" أي الشّرطي راكب الدّرّاجة، لأنّ حاملها ينطلق راكضًا بها في اتجاه الرّيح حتى تندلع نارها أكثر، و"الضّوّاية" لأنها تصدر ضوءًا، وهو الهدف منها، إذ يرمز ضوؤها في المخيال الشّعبي إلى نور النّبوّة.
يستحضر الفنّان عادل داود هذه القناديل في طفولته بالقول: "أنتمي إلى الجيل الأخير، الذي كان يستقبل المولد النبوي بـ"الموطار"، حيث كنّا نرغم أمّهاتنا على إفراغ علب الطماطم، أو نخرج في جماعة صغيرة بحثًا عنها في الأرصفة وأماكن جمع النفايات. لقد كانت سعادتنا مرمية على الأرصفة، ثمّ تصبح مضاعفة حين تتحوّل إلى قناديل في أيدينا".
يضيف محدّث "الترا صوت": "لم يكن هذا القنديل اليدوي يحقّق رمزية نور النبوة فقط، بل كان يساوي بين الأطفال الأثرياء والفقراء أيضًا، ذلك أنك تستطيع أن تعرف الطبقة، التي ينتمي إليها الطفل اليوم، من خلال طبيعة المفرقعات والألعاب النّارية التي يستعملها وهو ما لم يكن في السابق".
من جهته يقول الشّاعر والطالب الجامعي في فرنسا عبد الله بوكفّة إنّ من وظائف هذا القنديل، بالإضافة إلى رمزيته الدّينية، توفير الإنارة للأطفال ليلًا، وهم ينقسمون إلى جماعات "غازية" للبيوت، "كنا نحضر مسمارًا يخترق أنبوبًا فلاذيًا محشوًّا بالبارود أو الكبريت، وحينما يُضرب إلى الحائط الحجري يدوّي مثل رصاصة، لافتين انتباه البنات في البيوت، وهنّ يتلصّصن علينا حاملاتٍ شموعًا".
اقرأ/ي أيضًا: الطائفة الصوفية الكركرية.. تحريك المياه الراكدة في الجزائر
يبدو أن الجزائريين الذين عاصروا هذا القنديل، لن يكتفوا باستحضاره من باب الحنين هذا العام، بل يمكنهم أن يشاهدوه في واقعهم اليوم، إذ بدأ يظهر من جديد، خلال هذه الأيام السّابقة لذكرى المولد النبوي في المدن الصغيرة والقرى، مثلما وقف على الأمر "الترا صوت" في محافظات بسكرة، جنوبًا، والمسيلة، وسط، وبرج بوعريريج، شرقًا.
يعود أطفال الجزائر إلى تقليد قديم للاحتفال بالمولد النبوي، وهو تحويل علب الطماطم القديمة إلى قناديل والركض بها في اتجاه الريح
في مدينة المهير، 170 كيلومترًا إلى الشّرق من الجزائر العاصمة، صادفنا عشرات الأطفال عاكفين على جمع علب الطماطم المصبّرة وتحويلها إلى قناديل. كان الشّغف باديًا عليهم وهم ينطلقون بما جهز منها، بعد أن يثبّتوا شموعًا داخلها، أو يحشوها بالورق والقش ويضرموا النّار فيها. سألناهم إن كانوا قد فعلوا هذا في المواسم السّابقة، فقالوا إنهم كانوا يستعملون الألعاب النّارية، التي يشترونها من طاولات خاصّة تظهر بمناسبة المولد النبوي.
لفتت إجابتهم انتباهنا إلى ندرة هذه الطّاولات خلال هذا الموسم، إذ كانت تغزو الشّارع الجزائري أسبوعين قبل ليلة المولد، وتشكّل واحدة من أكثر التجارات الموسمية في الجزائر ربحًا. سألنا الأطفال عمّن أرشدهم إلى صناعة هذا القنديل، فقال سهيل، 12 عامًا، إنّ أباه أرشده إليه وعلّمه كيفية إعداده واستعماله.
يقول أبو سهيل لـ"الترا صوت" إنه كان يخضع في السّابق لإلحاح أولاده على شراء المفرقعات والألعاب النّارية، "وكان ذلك يكلّفني ربع راتبي، أيّامًا بعد عيد الأضحى والعودة المدرسية، فما كان منّي إلا أني طلبت منهم أن يستعملوا "القوطي"، هكذا يسمّى هذا القنديل في منطقة برج بوعريريج، فأدهشني إعجابهم به وإقبالهم وأصحابهم عليه". يختم: "إنّه أفضل من أن يُمضوا المولد بلا طقس، كما أنّه أفضل من المفرقعات القادرة على أن تأذيهم".
في السّياق، يقول المربّي حليم زدّام إنه مثلما جعلت الرّاحة المالية الجزائريين يستقدمون عادات وسلوكات من "المجتمعات المرتاحة"، منها الألعاب النّارية في مناسبات معيّنة، فإنّ زمن التقشّف، بحسبه، سيحملهم تدريجيًا على أن يبتكروا أنماطًا أقلّ تكلفة أو يعودوا إلى تلك التي كانت متوفّرة لديهم في السّابق، ومنها القنديل اليدوي في المولد النّبوي.
هنا على المنظومة التربوية والأسرية والثقافية، يقول محدّث "ألترا صوت"، أن تتدخّل لتستغلّ الوضع، لإعادة إحياء ما فقدناه من عادات وطقوس وأدوات باسم التحوّلات المختلفة. يختم: "علينا أن نصنّع هذا القنديل بطريقة أفضل، حتى يصبح دالًّا على الهوية الجزائرية للمولد، لا على الفقر والتقشّف".
اقرأ/ي أيضًا:
أولياء الجزائر الصالحون.. شموع مضيئة بالأمنيات
أطفال الجزائر يقاومون التقشف بخبز "المطلوع"