أدبٌ يكتبهُ المترجمون
يظهر لنا المترجمون على صورة الفئة الأحق بالحديث عن الترجمةِ، لكنّ ذلك لا يمنع القراء الذين يلتهمونَ الكتب المترجمة بالإدلاء بآرائهم أيضًا. فالثقافة حشريّةٌ تحتّم على أيّ أحدٍ منّا أن يدسَّ أنفه فيما لا يعنيه كما يعبّرُ السّارتريّون.
لو أردنا تعريف القرّاء لاقترحنا هذا الكمّ المنسيّ الهائل من باعة وهواة وأساتذة، تلاميذ وعشاق وموظفين، مَن يصنعون مجد المترجم والمؤلف ومن يسيّرون بوصلته ويشجّعون مواصلته المسار شاء أم أبى، وهذا للإنصاف.
يتصرّف العديد من المترجمين بطريقة توحي أنهم أرفع قدرًا من الكتّاب والشّعراء والنقّاد. يقابل ذلك التصرّف إذعانٌ أشدُّ من القرّاء تجاه المرء إذا كان مُترجِمًا
بغية الإغراء يبيّن لنا المترجمون الأعزّاء بأنّ قراءة عملٍ بلغته الأصليّة أو لغته الأم نسبة للألم أو الرعاية أو الحنين، ولكن هذه النّسبة تأتي منقوصة مهما فعل المترجم واجتهد. قراءة أيّ عمل بلغته الأصلية متعة لا تساويها متعة، أمّا قراءته مترجمًا فقد صرّحت الروائية الراحلة ناصرة السّعدون مرةً بأنها قرأت عمل ماركيز "مئة عام من العزلة" بالعربية، على ما فيه من إبداع وترجمة واشتغال على جميع الصّعد، فهي وجدت العمل عاديًا، لكنها عاودت قراءته بترجمته الفرنسية فأعجبها. على الرغم من أنّ أعمال ماركيز قد تكون مملةً حتّى لأبناء جلدته، إلا أنّ تلك الفكرة المطروحة أمامنا لها نصيبٌ كبير من موضوعيّة الطّرح، إذ إنّ اللّغة الأدبيّة ليست المفردات إنّما الروح المشتملة على البنى الاجتماعية والثقافيّة لأيّ لأمةٍ. لا يمكن بأيّة حال نقلها دون تشويهٍ نحو لغة أمةٍ أخرى ومن تلك الرؤية يتمّ تعريف التّرجمة بأنها تأليف على التأليف، كتابة على الكتابة، وبمعنى أكثر فظاظة خيانة للنّص الأصلي.
ثمّة رأيٌ آخر تتزعّمه مقولة ساراماغو الشّهيرة بأنّ الأدب كلّه محلّي لكنّ المترجمين يجعلونه عالميًا، وهو رأي يُسعدنا الانضواء تحت لوائه نحن الّذين لا نُجيد سوى لغتنا الوحيدة آنيًا، إذ ينطوي على مركزيّة الأجنبي المقيتة الّتي تصبح معها الآداب المترجمة أرفع من الآداب المحليّة طالما أنّها أجنبية، وقد استشرى ذلك الداء إلى درجة مؤسفة حدّ أنّ الكتب المترجمة تحقّق مبيعات أعلى من الكتب العربيّة في معارض الكتب، وتلاقي قبولًا أكثر. فيما تقرّر دور النشر العربية أنّ الشّعر يُعاني من الكساد لا تتوقف بالمقابل عن طباعة مختارات شعريّة لشعراء أجانب يتّصف بعضها بالتّواضع على المستوى الإبداعي والمنجز الفنّي، الأمر الّذي يجعلنا نوجه سؤالًا غرائبيًا بعض الشيء مفادهُ: هل الشّعر الأجنبيّ أصيل والشعر العربيّ ابن البطّة البيضاء؟!
آفةُ حارتِنا التّرجمة
استنادًا إلى السّوق والإقبال الكبير على الترجمات مقارنة باللغة الوطنيّة، يتصرّف العديد من المترجمين بطريقة توحي أنهم أرفع قدرًا من الكتّاب والشّعراء والنقّاد. يقابل ذلك التصرّف إذعانٌ أشدُّ من القرّاء تجاه المرء إذا كان مُترجِمًا، وتزلّف من الكتاب المحليين أيضًا فمن الحكم الذهبية نحو الشّهرةِ لدى بعض كتّاب اليوم: "أقِم علاقة مع مترجم لتضع قدمك في طريق العالمية". يجري ذلك دون الانتباه إلى أنّ العالميّة مستوى إبداعي وليست عبورًا جغرافيًا أو علاقاتيًا فحسب.
الترجمة لو قبلنا لها افتراضًا شائعًا مفاده أنّها سلاح ذو حدين فهي تحمل أخطارًا على عدد كبير من القراء وعلى ذهنية عمل المؤسسات الإعلامية العربية بشكل أو بآخر. ما أن يعرف القارئ عن شاعر أنّ كتبهُ تُرجمت إلى عدد من اللّغات حتّى يعتقد أنّه شاعر عظيم ويخالجهُ الشكّ بعظمته. بل والأنكى أنّ كتابًا مترجمين يتلقّون التعظيم في بلداننا أكثر مما يتلقونه في بلدانهم الأصليّة مثل باولو كويلو وغيوم ميسو، إضافة إلى العدد الهائل من الشاعرات والشعراء الذين تشفع لهم أصولهم الأجنبية بقبولنا قراءة نصوصهم الأقرب إلى الخواطر منها إلى الشعر، وهذا رأي طبعًا.
ليس للمترجم دور في سطحيّة التلقّي تلك إنّما ثمّة أبعاد سياسيّة واقتصاديّة وسيكولوجيّة تُشير إلى قلّة اعتدادنا بتراثنا ومنجزنا الإبداعي، ودونيتنا غير المبرّرة دومًا أمام تراث وإبداع الأمم الأخرى. الدور الأكبر هنا يعودُ إلى المؤسسات العربية المدجّنة غالبًا، إذ تتحمل دور النشر العربيّة جزءً كبيرًا من المسؤولية المحليّة التي يعاني منها الأدب العربي. يحقُّ لنا أن نسأل هنا عن أدبنا وتراثنا العربيّ. كم هو عدد دور النشر العربيّة التي سعت إلى الاستثمار في ترجمة أو شرح وتحقيق الكتب التراثيّة والأدبيّة والشّعريّة لأساطين العربيّة؟ بدل إنفاق ميزانيّات كبرى على لغات وترجمات من لغات مختلفة؟ لم لا يتمّ تخصيص جزء من الأموال للأعمال التي ترتكز عليها لغتنا العربيّة. من المعروف أنّ العربيّة تقوم على ركيزتين القرآن والشّعر. لمَ لا يتمّ تفعيل الترجمة المقابلة؟ لعلّ تفعيل الترجمة المقابلة وتسويق الكتاب العربيّ بشكل محترمٍ ستكون له آثار كبيرة بتعريف العالم بأدبنا العربي، الذي تتفوق الكثير من أعماله على أعمال أوروبية نهلّل ونبتهل لها وإليها ليلًا نهارًا.
المترجمُ كقارئ الخَفر
عند تصفّح سيرة كاتب أجنبي داخل عمله المترجم ستلاحظ إشارة سرمديّة تقول إنّ هذا الكاتب أحد أهمّ كتاب ذلك البلد إن لم يكن أهمّهم. تلك عبارة على دقّتها وسلامة مصدرها فإنها لا تتعدّى سوى رؤية عدد من النقّاد يضعها المترجم بغية تسويق عمله، وإقناعنا بأنه جاء لنا بالزّبدة من قدر اللّبن. ولعلّها لا تختلف كثيرًا عن الوصفة السّحريّة الّتي نقرأها على أيّ عمل لكاتب عالمي حاز على نوبل، "الكاتب الحائز على نوبل"، بالرغم من أنّ نوبل جائزة تمنح عن مجمل الأعمال الأدبية والإنسانيّة الفعّالة، فإنّ الناشر والمترجم يُحاولان إيقاع القارئ بفخٍ على شكل لغز يصرّح أنّه نال عنه، والمقصدُ الكتاب، الكاتب جائزة نوبل الشهيرة للأدب.
لقد تحوّل الطموح إلى العالميّة إلى ماراثون مبتذل، حدّ أن يتحمل العديد من الكتّاب نفقة ترجمة كتبهم إلى لغات أخرى بما يُشبه المغامرة، علّهم يضعون قدمًا على طريق الشّهرة والأضواء
يحدّثنا المترجم كقارئ الخفر الذي يعلم بسرّ البئر الغائر، فيقرّر لنا مَنْ الأفضل والأهم وهو أمر نكتشفه بأسف عند ترجمة الأعمال العربية إلى لغات أخرى، إذ غالبًا ما تُترجم أعمال مؤلّفين بسبب الصّدفة أو الحظ أو نسيج العلاقات الشّخصية، فيظنّ المؤلف بالفعل أنّه أفضل من مُجايلييه بمجرّد ما يُترجم، كما لو أنّ القراء الأجانب لهم عشر عيون وللقرّاء العرب اثنتان فقط.
لقد تحوّل الطموح إلى العالميّة إلى ماراثون مبتذل، حدّ أن يتحمل العديد من الكتّاب نفقة ترجمة كتبهم إلى لغات أخرى بما يُشبه المغامرة علّهم يضعون قدمًا على طريق الشّهرة والأضواء العالمية، التي يرفضها كتّاب عالميّون مثل ميلان كونديرا، حيث لا يَعنيه ما تؤول إليه كتبه بعد أن ينتهي منها.
الشهرة والعالمية، بما في الكلمتين من مجدٍ شخصي يحقّ للجميع التفكير به والسّعي الحثيث نحوه، إلا أن السّعي واللهاث قد يُفقد الموهبة جوهرها ويحوّلها إلى محتوى إشهاريّ فحسب. وهذا ما لا يفترضهُ الأدب ولا الشّعر ولا صاحب فنّ رفيع وربّما "مقدّس".