ظلت فرنسا إلى غاية 2013 الشريكَ الاقتصاديَّ الأول للجزائر، قبل أن تزيحها الصين إلى المرتبة الثانية، ويستقر حجم المبادلات بينهما على عشرة ملايين يورو، من غير أن تتراجع الشركات الفرنسية عن المرتبة الأولى من حيث التسهيلات الاستثمارية الممنوحة لها، بالمقارنة مع نظيراتها الأخرى، خاصة بعد مجيئ وزير الصناعة الحالي عبد السلام بوشوارب الذي ورد اسمه في "وثائق بنما".
ظلت فرنسا إلى غاية 2013 الشريكَ الاقتصاديَّ الأول للجزائر، قبل أن تزيحها الصين إلى المرتبة الثانية
هذه الحظوة الاقتصادية الفرنسية في أكبر بلد أفريقي وعربي مساحة بعد تقسيم السودان، جعلت باريس تتعامل مع الغضب الجزائري الذي نادرًا ما يطفو إلى السطح، بمنطق: "لكم أن تغضبوا تنفيسًا، المهم ألا تغيّروا الفرنسية بالإنجليزية، وألا تجرّدونا من مصالحنا المالية كما فعل الرئيس هواري بومدين في سبعينيات القرن العشرين".
اقرأ/ي أيضًا: الجزائر.. عودة شكيب خليل تثير الجدل
آخر تجليات هذا الغضب الجزائري "المضري" كان ثمرة لتسريب وثائق بنما، حيث وضعت جريدة "لوموند" الفرنسية صورة الرئيس الجزائري في صدر الملف الذي أعدته عن الوثائق المتسربة، من غير أن تورد اسمه داخل الملف، وهو ما أثار حفيظة قصر المرادية، فتم استدعاء السفير الفرنسي للاحتجاج، بالموازاة مع تجنيد الإعلام الحكومي في هجمة على فرنسا، لم نشهدها حتى عام 2005 حين أقر البرلمان الفرنسي قانونًا يُمجد الاستعمار الفرنسي للجزائر، وهو الإجراء الذي دفع شطرًا من المعارضة إلى القول إن الرئيس يتصرف على أن الجزائر هي حاكمها، أي شخصه، والدليل أنه لم يتصرف مع باريس بالحرارة نفسها في حماقات سابقة منها في حق البلاد وتاريخها.
باريس قالت إنها لا تستطيع أن تذهب أكثر من الإدانة لهذا التصرف الإعلامي من إحدى كبريات منابرها المكتوبة، لأنها بلد ديمقراطي ولا تملك الحق في أن تتدخل في الشؤون الخاصة للإعلام والإعلاميين، وكون الجزائر ذات أفضال اقتصادية عليها، لا يعطي لها الحق في أن تتعامل مع الإعلام الفرنسي الحر كما تتعامل مع إعلامها في الداخل الجزائري بمنطق القمع.
هذه الوقائع تزامنت مع زيارة رئيس الحكومة الفرنسي إلى الجزائر العاصمة، السبت، وهي الفرصة التي اغتنمتها حكومة عبد الملك سلال فحجبت تأشيرة الدخول عن صحفي جريدة "لوموند"، مما فتح باب التضامن واسعًا معها من طرف الإعلام الفرنسي ووضع مانويل فالس في حرج كبير، فبادر إلى استنكار الأمر والوعد بمراجعته مع نظيره الجزائري.
اقرأ/ي أيضًا: الآداب والعلوم الإنسانية في الجزائر.. إلى أين؟
هنا تجدر الإشارة إلى أن محيط الرئيس الجزائري بادر قبل مدة يسيرة إلى إغراق "لوموند" بوابل من الإشهار، مقابل تخصيصها مساحات مهمة للحديث عن إنجازات بوتفليقة منذ مجيئه إلى الرئاسة عام 1999، وهو ما شكّل يومها فضيحة للطرفين، لا تقل دويًا عن الدوي الذي يشكله ورود اسم وزير الصناعة الحالي عبد السلام بوشوارب في وثائق بنما.
محيط الرئيس الجزائري بادر إلى إغراق "لوموند" بوابل من الإشهار، مقابل تخصيصها مساحات مهمة للحديث عن إنجازات بوتفليقة
بوشوارب المحسوب على محيط الرئيس بوتفليقة بادر إلى الدفاع عن نفسه باتهام أطراف أجنبية، فرنسية وأمريكية بمحاولة تشويه سمعته، لأنه وقف في وجه مصالحها الاقتصادية حرصًا منه على مصالح البلاد، وهو الدفاع الذي سرعان ما تبناه المحيط الرئاسي، كما فعل أحمد أويحي رئيس "التجمع الوطني الديمقراطي" ثاني حزب حاكم ورئيس ديوان الرئاسة، وعمار غول وزير السياحة ورئيس حزب "تجمع أمل الجزائر" أحد الأحزاب المشاركة في الحكومة.
بهذا تكون الجزائر الحكومة الوحيدة التي لم يحملها ورود أحد مسؤوليها في "وثائق بنما" على أن تتحرك باتجاه التحقيق أو الاستقالة أو الإقالة، مما يعطي انطباعًا بأن الفساد بات محميًا بشكل رسمي في هذا البلد الذي أنفق 800 مليار دولار في خمسة عشر عامًا من غير أن يخرج من دائرة التخلف، ويأخذ هذا الانطباع مصداقية أكبر بمراعاة التعامل السلس للحكومة مع عودة وزير الطاقة والمناجم السابق شكيب خليل، وهو المتهم بالسطو على مبالغ ضخمة من الخزينة العامة.
في ظل هذه الحاجة الجزائرية إلى التزكية الفرنسية والسكوت على الخرابات الحاصلة في سياسة الحكم، والحاجة الفرنسية إلى المال الجزائري الذي أنقذ كثيرًا من شركاتها من الإفلاس، يبقى التشنج الحاصل بين الطرفين من حين إلى آخر، ومنه هذا التشنج الذي أثارته "لوموند"، مجردَ مسرحية لذر الرماد في عيون الحقيقة.
اقرأ/ي أيضًا: